معاناة الغربة الإجبارية: من خرج من داره.. اتقل مقداره
غرفة بإحدى الشقق السكنية للطلاب
ودّعوا الأهل والأحباب، وحَمَلوا أمتعتهم لتحمّل غربة غير اختيارية، لا يعرفون إلى أين ستستقر أقدامهم، ومع من سيتقاسمون اللقمة، وأى تحديات سيواجهون، من أجل استكمال تعليمهم فى كلية خارج نطاق محافظاتهم.
الصدمة الأولى تبدأ برحلة البحث عن سكن، فالأسعار متفاوتة، والموقع غير مناسب أحياناً ببعده عن الجامعة، بالإضافة لمشكلة البحث عن مُرافق يشاركهم الأربعة جدران، ولا تنتهى المعاناة عند هذا الحد، فى ظل فقر الخدمات، وارتفاع الإيجارات وتكاليف المعيشة.
فى محافظة سوهاج ودّع إسلام فوزى أهله للدراسة فى معهد القاهرة الجديدة العام الماضى، ليعيش معاناة كبيرة لم يكن يتخيلها، ويحاول هذا العام تلافيها: «10 ساعات سفر بالقطر لحد ما وصلت محطة رمسيس، قعدت أتلفت حواليا، وكنت حاسس بغربة فظيعة وخوف إن حد يضحك عليا، خاصةً إنى عارف أول ما هسأل على سكن ناس كتير هيكون كل همها تاخد اللى فى جيبى».
استقر «إسلام» على منطقة «التبة» فى منطقة مدينة نصر، ورغم عشوائيتها فإن سعرها هو ما حسم اختياره: «كانت على الطوب الأحمر، وفيها أنتريه وتلاجة بس، وإيجارها 1700 جنيه بيتقسموا على 7 طلاب. ولأنها بعيدة عن المعهد كنت بادفع كتير فى المواصلات، والميّه كانت بتقطع بالأسبوع، فبنضطر نشترى ميّه معدنية للشرب، ونروح حمّام المسجد أو حمام رمسيس العمومى، ووقت النوم ناس تنام على الأرض وناس على الأنتريه، وبالدور».
«إسلام»: شقتنا على الطوب الأحمر وفيها أنتريه وتلاجة.. و«مصطفى»: المساكن الخاصة بنا فى الفيوم بلا رقيب.. و«أحمد»: «بأسكن مع 10 زملاء»
300 جنيه هو مصروف «إسلام» الأسبوعى، الذى يرسله له والده، ومنه لا بد أن يدفع إيجار السكن، المواصلات، الطعام، مستلزمات الدراسة فى المعهد: «والدى موظف، وأحياناً اتقل عليه، وبيبعت ليا فلوس فى نص الأسبوع. باكل إما فول أو طعمية أو كشرى، وأوقات كتير باكتفى بوجبة واحدة فى اليوم: «طبق الكشرى بـ10 جنيه، يعنى 300 فى الشهر.. طب أعمل إيه؟ فكرت أشتغل، لقيت المتاح قدامى إما عامل نظافة، أو فى شركة تأمين، وفى الحالتين المرتب ضعيف، والشغل هيأثر على الدراسة».
«قاسية»، هكذا وصف مصطفى عباس تجربة انتقاله من منطقة البدرشين بالجيزة، للدراسة فى كلية الزراعة بجامعة الفيوم، حيث اختار فى البداية السكن فى المدينة الجامعية بـ250 جنيهاً شهرياً، فى غرفة تضم 6 طلاب، و6 أسرة. مرت السنة الأولى، مقرراً عدم تكرار التجربة لعدة أسباب، أولها صعوبة المذاكرة مع العدد الكبير.
أما الطعام فوصفه بـ«مايتاكلش»: «فراخ بدمها، جبنة بالدود، وممكن حشرات ميتة فى الطبيخ»، العوامل التى دفعت «مصطفى» للتفكير فى سكن خاص فى عامه الدراسى الثانى، لكنه اصطدم بالأسعار: «2000 جنيه، وصاحب المكان يجبرك على 4 طلاب بس فى الشقة، ده غير رسوم الميّه والكهربا والغاز، والشقق اللى أقل منها فى الإيجار بعيدة وغير آدمية».
«بلال»: المغترب لازم يسأل أصحاب الخبرة.. و«أحمد»: بادفع 250 جنيه عشان أقعد فى أوضة مشتركة
للسكن الجامعى الخاص فى الفيوم مساوئ أخرى لاحظها «مصطفى»، وهى عدم وجود رقيب: «تلاقى واحد جايب قريبه يبات معاه أسبوعين، والتانى معاه صاحبه، فماتعرفش تذاكر من الدوشة»، ما دفعه لاتخاذ قرار جرىء بالذهاب يومياً من البدرشين إلى الفيوم، مهما كلفه الأمر من وقت ضائع، ومصاريف انتقال تقارب الـ50 جنيهاً يومياً: «بانزل من البيت الساعة 5 ونص صباحاً، وباوصل الساعة 9، باخلص الجامعة وأروح على طول ماقعدش مع زمايلى، يادوب أوصل أقعد مع أهلى شوية، وأحضر لتانى يوم».
قبل موعد الامتحانات بشهر، يفضل «مصطفى» البحث عن سكن مع 5 من أصدقائه، لعمل معسكر للمذاكرة، فلا مجال لتضييع الوقت فى المواصلات: «المشكلة إن السماسرة بيستغلونا وقتها. يقولك جايلى متأخر ويعلى فى السعر عليك، ولازم نستحمل».
كان يحلم بلقب «دكتور» منذ الصغر، فقدم من سوهاج ليدرس فى القاهرة ويحقق حلمه، لكنه سرعان ما اصطدم بواقع لم يكن بالحسبان. إسلام فتحى، 20 عاماً، يدرس الطب فى جامعة خاصة بمنطقة المقطم، قضى عامه الأول فى سكن خاص لأول مرة فى حياته، تعلم منه الكثير، وكانت فترة الامتحانات الأكثر إيلاماً: «كانت فى رمضان، وأنا مش متعود أقضى رمضان بعيد عن سوهاج وبيتى وناسى». وعن معاناة السكن الجديد، يقول: «كل حاجة فيه كانت بايظة. ميّه ونور وسباكة ونجارة».
يشارك «إسلام» السكن 5 من أصدقائه: «بنساعد بعض فى الإيجار. كل واحد بيدفع 400 جنيه فى المتوسط ممكن أقل أو أكتر حسب سعر الشقة»، ولم يكن سهلاً عليه من البداية العثور على شقة: «مالقيتش حاجة فى المقطم، والسمسار كان عايز يستغلنا، وطبعاً أكتر من 500 جنيه ماقدرتش أدفع، لأنى فى كلية طب، ومصاريفى كتير فى الأبحاث والمشاريع، ده غير الأكل والشرب».
4 سنوات قضاها بلال محمد مغترباً فى القاهرة للدراسة فى كلية حاسبات ومعلومات جامعة القاهرة، أقام لمدة عامين فى المدينة الجامعية، ثم انتقل إلى سكن خاص للطلبة فى آخر عامين، ولم تنته تجربته مع السكن الطلابى الخاص عند هذا الحد، فيستعد الفترة المقبلة للاستقرار به مجدداً لدراسة بعض المواد المتبقية معه من السنوات السابقة. للمدينة الجامعية مميزات لا ينكرها «بلال»، منها القرب من الكلية، المصاريف البسيطة، والمكان النظيف، أما سبب انتقاله منها، كان عدم سماحها بإقامة طالب راسب فى بعض المواد: «لو شايل مادة مش مسموح ليك تسكن فى المدينة»، ليشعر بمعاناة شديدة لإيجاد سكن مناسب: «الأماكن اللى جنب الكلية معظمها محجوز، والفاضى يا غالى يا مش نضيف».
ما بين 4000 و5000 جنيه تراوحت إيجارات السكن الطلابى الخاص، من المفترض أن يقسم على 5 أفراد، فبدأ البحث عن مكان أبعد أقل تكلفةً، فاستقر لمدة عامين فى منطقة حدائق المعادى لسهولة مواصلاتها إلى الكلية: سنة منها بـ1300 جنيه فى الشهر، والثانية بـ1700، مقسمة على الطلبة».
تعلم «بلال» من تجربته الكثير: «عرفت إزاى آكل بـ30 جنيه فى اليوم. قابلت ناس من كل المحافظات واتعلمت منهم، اتعلمت إن محدش يضحك عليا، وإنى أعيش لوحدى».
نصيحة «بلال» للمغترب الذى يبحث عن سكن أن يسأل أصحاب الخبرة أولاً، بدلاً من السماسرة، وأن ينزل بنفسه لمعاينة الأماكن، ويسأل السكان وحراس العقارات عن سكن مناسب للطلبة: «لازم يكون فيه إشراف من جهة حكومية على سكن الطلاب الخاص، أو يوفروا أماكن ويأجروها وكله بتمنه، المهم مفيش حد يضحك علينا».
تجربة مختلفة عاشها عبدالرحمن محمدين، 21 عاماً، حيث قدم من محافظة المنيا إلى القاهرة ليدرس فى معهد الخدمة الاجتماعية، على مدار سنوات الدراسة الأربع تغيرت حياته 180 درجة، فى البداية وجد معاناة شديدة فى الحصول على سكن مريح، وعانى من استغلال السماسرة لحاجتهم وأصدقائه الستة.
«إحنا 7 قاعدين فى الشقة فى منطقة عين شمس، وبنتقاسم كل حاجة. بندفع 1700 جنيه إيجار الشقة، وبنشتغل عشان نقدر نكفى احتياجتنا». يلعب «عبدالرحمن» كرة قدم فى نادى مصر للطيران، ويتخذه عملاً، ما ساعده بشكل كبير فى تحقيق قدر من الاستقرار بالقاهرة: «أكتر حاجة بتزعجنا فى السكن هى مشاكل الجيران معانا طول الوقت، متضايقين عشان إحنا شباب بندرس وساكنين فى شقة».
مع 9 طلاب يعيش أحمد جمال، 20 عاماً، بسكن قريب من كليته فى محافظة سوهاج، حيث انتقل من مركز البنانة بأقصى الصعيد ليعيش فى سوهاج، التجربة التى لم تكن سهلة بالمرة: «عايش مع ناس طباعهم مختلفة عنى، والعدد كبير يخض».
250 جنيهاً هو إيجار الغرفة الذى يعيش فيها «أحمد»، ويتوافر بها سرير ودولاب خاصان به: «السعر مناسب جداً ليا، خصوصاً إن عدد الأفراد فى الغرفة كبير»، ولا تتوقف معاناته عند كثرة عدد الطلاب، إنما فى مصاريف الكلية: «بدرس فى زراعة، وبروح 5 أيام فى الأسبوع، وده بيحملنى كتير».
1200 جنيه هو متوسط مصاريف «أحمد» فى الشهر الواحد: «أكل وأبحاث ومواصلات، ونفسى السنتين اللى باقيين يعدوا وأقدر أتنفس الصعداء».