كانت الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساءً، ولم يتبقى سوى دقائق قليلة على موعد آذان المغرب، ولا سيما فجميع من فى المنزل صائمون فى يوم عرفة، كما تعودوا كل عام، وإذا بجدتى تنادينى وتمسك يدى، فى حنان ورفق، وتعطينى «العيدية» كما عوّدتنى مُنذ أن كنت طفلاً يحبو.
كُنا فى مثل هذه الأيام، وبالتحديد فى يوم عرفة من عام ۲۰۱٦م، أى منذ عامين مضوا، أمسكت جدتى بيدى، ومنحتنى مائتان جنيه، كما كانت تفعل كل عيد وكل مناسبة، وقلبتنى وأنا بادرتها بتقبيل يديها التى تعودت على العطاء، ونظرت إلى عينيها فوجدتها ممتلئة بالدموع، وقالت لى كلمة لا أنساها، «ربما تكون العيدية الأخيرة».
بدورى دعوت الله لها بطول العمر، ولكنى ظليت أفكر فى هذه الكلمة كثيراً، ولما لا فجدتى لا تنطق إلا بما تشعر به، فقد تنبأت بوقوع الأحداث الكثيرة، فى حياتها وحتى بعد وفاتها، وحدث بالفعل ما كانت تتوقعه، حيث رحلت فى نهاية عام ۲۰۱٦م، بعد عيد الأضحى المبارك بحوالى ثلاثة أشهر تقريباً، وبالفعل كانت «العيدية الأخيرة»، فقد صدقت كلمتها، ووافتها المنية بعد سنوات من الكفاح المرير، والصبر، والاحتساب، وتركتنا نحن للغربة.
اعتدنا كل عام على قضاء يوم عرفة فى منزلها الدافئ، وتناول وجبة الإفطار معها، بعد صيام هذا اليوم العظيم، وكانت تعمل على لم شمل الجميع فى هذه الأيام المباركة، ودعم أواصر الود وصلة الرحم بين جميع أفراد العائلة، لا استطيع أن أنسى جلسات هذا اليوم، والعزومات التى كانت تتكرر خلال أيام العيد.
كان يومى يبدء من فجر يوم عرفة، وكنت أحرص على الاستيقاظ مبكراً لأداء صلاة الفجر فى جماعة، ومن ثم نشرع فى التكبير بعد الصلاة، وكنت مكلّف بقيادة جميع الحاضرون فى التكبير، منذ الصغر، حيث كنت أقوم بالتكبير والمصلون من حولى يرددون، وعقب صلاة الفجر كنا نجلس فى المقرأة التى اعتدنا عليها كل فجر لنقرأ القرآن الكريم، ويصححه لنا عمنا الشيخ «إبراهيم حبيب»، رحمه الله، وكان أحد حاملى كتاب الله، وختمه آلاف المرات.
عقب الصلاة كان كلٌ مِنا يذهب إلى منزله، لأخذ قسطاً قليلاً من الراحة والنوم، والاستعداد ليوم عرفة، بالصيام، وبكثرة الاستغفار، والذكر، والطاعات بالتسبيح والتهليل، وكنا نعود قبل صلاة الظهر بدقائق، فالمساجد ممتلئة بالمصلين الذين جاءوا من كل حدب وصوب لينالوا مغفرة الله عز وجل، ومن ثم نصلى ونجلس نتحدث عن فضل يوم عرفة، هذا اليوم العظيم الذى يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان.
كنت أذهب مسرعاً إلى منزل جدتى، حتى استمع معها إلى خطبة عرفات، والخطبة النادرة المُسجلة لفضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، أثناء أداء فريضة الحج عام 1976م، وعقب الخطبة، كنا نستمع إلى تكبيرات العيد التى كانت تبثّ عبر موجات إذاعة القرآن الكريم كل دقيقة وأخرى.
كان يوم لا يُنسى، اعتدنا فيه على لمة العائلة برجالها، ونسائها، وأطفالها، وكانت تضم مائدة الإفطار فى هذا اليوم أشهى أنواع المأكولات، والمشروبات المختلفة، وأصناف الحلوى، فما زلت أتذكر هذا اليوم بكل تفاصيله، أتذكر المائتان جنيه، وشكلها، اتذكر نظرات جدتى وفرحتها بتجمعنا حولها فى هذا اليوم، الكثير من الذكريات المؤرقة والجميلة، تتطاير علينا خلال هذه الأيام، ولكنها إرادة الله، فكل شئ هالك إلا وجهَهُ.
مازلنا كما نحن، نلتقى ونجتمع فى منزلها خلال هذا اليوم من كل عام، نتناول وجبة الإفطار مع من تعودنا على لقائهم فى هذا اليوم، ولكن لن ولم يملأ أحداً مكانها، فهناك فراغ كبير قد تركته لنا، آلام كبيرة وأحزان لا يعلمها إلا الله عز وجل.
جدتى التى كانت تتمنى أن تذهب إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، وحينما سنحت لها الفرصة كنت على موعد مع الأمراض، والهموم، والأحزان، فقد أكل عليها الدهر وشرب إلى أن ذهبت إلى خالقها الذى كان أعلم بطيبتها، وورعها، وكرمها، وإنسانياتها، وطهارتها، وعفتها.
فى النهاية .. إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا جدتى لمحزونون، رحم الله جدتى، وقلبها الذى كان يفيض نقاءً وطهارة، اللهم ارحم ابتسامتها التى لم تختفِ من ذاكرتى، ورحم الله الذين رحلوا أجداد وخالات وخلان، وأولاد خلات، رحمة واسعة، فكانت أجمل أيام حياتنا معهم.