أحداث الطفولة وكافة تفاصيلها لا يمكن أن ننساها أبداً، فكيف ننساها وهى الأصل والمبنع، فيها الكثير من الذكريات الجميلة المؤثرة، والعقل الصافى، والملاذ الآمن، والاستقرار والطمأنينة.
كانت طفولتى هادئة تماماً، وكنت أتمتع بكافة وسائل الدعم والحب والحنان من كافة أفراد الأسرة، كان كل ما يشغل بالى فى هذه الفترة، أشياء تافهة ليتها استمرت معى كـ«حل الواجب»، أو «شرب كوب الحليب»، فقد كانت مرحلة صفاء ذهنى، وراحة بال، وطيبة، وعفوية، وبساطة، وطهارة قلب.
ربما كانت فترة الحضانة من أجمل فترات حياتى وهى مرحلة ما قبل الصف الأول الابتدائى، كان بها بعض التجارب المحدودة، وتخطى الجدار العازل بينى وبين الناس لأول مرة، والتعرف على أصدقاء جدد، بعيداً عن دائرة المعارف.
تنقلت بين أكثر من حضانة، وعلى ما أتذكر منها «حضانة الزهور»، وكانت أولى خطواتى، حيث التحقت بها بعدما تخطيت الـ3 أعوام، وبالتحديد عام 1998م، وتركتها بعد أشهر قليلة، بعدما لدغتنى نحلة بها، جعلتنى متخوّف من العودة إليها مرة أخرى، خشية التعرض للدغات النحل، الذى كان يتنقل بين زهور حديقة الحضانة، ليمتص الرحيق، إلى أن قررت أسرتى إلحاقى بـ«حضانة الضادى»، وكانت من أشهر الحضانات فى مدينة بيلا، بمحافظة كفر الشيخ، فى ذلك الوقت، حيث بات صداها واسعاً خلال أواخر التسعينات من القرن الماضى، وحتى منتصف الألفية الجديدة.
«حضانة الضادى» كانت جميلة، نظيفة، دافئة كحضن الأم، الذى نجد فيه الخلاص، والطمأنينة، والمحبة، لم أشعر فيها يوماً بالخوف أو بالغربة، بل كنت أشعر دائماً أنها بيتى الثانى، وكان لى معاملة خاصة من قبل مُعلميها المبرزين، وإدارتها الصارمة أيضاً.
لحظات محفورة بتفاصيلها فى الذاكرة، حينما كُنت استيقظ من النوم فى كل صباح، لأجد كوب الحليب ينتظرنى، وكنت أكرهه بشدة، وأتقزز من رائحته، ولكنى كُنت مجبر على شربه بعد ألوان من المحايلة والمساومة، وكُنت انتصر فى النهاية بعد أن أتقيأ كل ما تجرعتُه من هذا المشروب الذى ينفر منه الأطفال.
كُنت فى صراع دائم مع «الساندوتش»، التى كانت تُعده لى والدتى كل صباح، بعد أن تخيرنى بين أصناف من الجبن، والمربّى، والفاكهة، وكان ردى دائماً «أى حاجة»، وكانت والدتى تشطاط غيظاً من هذا الرد، ليكون أمامها كامل الاختيار، لأفاجئها بعد أن تكون قد انتهت من عمل «الساندوتشات»، بقولى «مش بحب ده»، لتكون فى حيرة من أمرها، وأظن أنى بقيت على هذا الحال حتى التحقت بالصف الأول الابتدائى.
كانت هناك أيضاً معاناة مع «عم السيد»، صاحب «الحنطور»، الذى كان يجرّه أكثر من حصان، وكان يأتى أمام منزل جدتى فى تمام الساعة السابعة والنصف من صباح يوم، ليصطحبنى إلى الحضانة، ومن ثم تبدأ الرحلة فى جمع الأطفال من منازلهم واحداً تلو الآخر، وصولاً إلى الحضانة.
التقط الآن بعضاً من ذكرياتى مع الحضانة، حينما تمردت على معلمتى فى الحضانة، وكانت تُدعى مس «حسناء»، ما زالت تفاصيل هذا اليوم فى ذاكرتى، يومها ذهبت إلى مدير الحضانة «حلمى الضادى»، رحمه الله، لأشكو له من سوء معاملة المعلمة، والذى بدوره ابتسم.لى ابتسامة خالدة فى ذاكرتى حتى الآن، وقبلنى نظراً لشجعاتى على الرغم من صغر سنى، حينذاك.
أتذكر حينما ذهبت فى أول رحلة فى حياتى، وكانت إلى استاذ بيلا الرياضى، وكان فى عز مجده فى أواخر التسعينات، وقتها التُقطت لى صورة مع زميلى «إسلام»، وظلت معى حتى وقت قريب، ولكنى فقدتها كما فقدت أيام الطفولة.
«مريم» زميلتى فى الحضانة، والتى كانت تجلس بجوارى دائماً، وكنا نتبادل الطعام مع بعضنا البعض، ونتحاور باستمرار، وكُنت دائماً أتمنى لو أن تُنجب والدتى طفلة حتى نسمّيها «مريم»، ولا أنسى يوم ولادة أخى الأصغر، وكنت وقتها لم أتجاوز عامى الرابع، حينما ظللت أبكى، وأقول لهم «أنا عايز أخت يكون اسمها مريم»، وشاءت الأقدار أن نكون أصدقاء أيضاً فى المرحلة الابتدائية، حيث كُنا فى فصل واحد، وكانت تجلس أمامى مباشرة.
كانت رحلة العودة من الحضانة إلى المنزل هى الأشد فرحاً، ولا سيما أننا مُقبلون على راحة بعد تعب وإرهاق يوم كامل مُفعم بالعلم والمعرفة، وكُنا نستقل جميعاً «الحنطور»، ونستنشق رائحة الطعام وهو يُطهى فى المنازل، ونحن نتضور جوعاً، وبعد ذلك يصل كلُ منّا إلى منزله ويغلبنى النوم قبل أن أتناول الطعام.
لا أنكر اننى كنت مجتهداً، وكنت أحافظ دائماً على حل واجباتى التى كُنت قد كُلفت بها من قبل مُعلمى الحضانة، وكنت دائماً أراجع دروسى باستمرار، ولم أرى نفسى كسولاً فى هذه الفترة، بل كان لديَ شعور كبير بالنشاط والحيوية، من أجل الجد والاجتهاد والتحصيل الدراسى، وكنت دائماً من المُكرمين، فى الحضانة.
شوارع مدينة بيلا فى ذلك الوقت، وهدوئها، وجمال وطيبة سكانها، مطبوع بحذافيره فى الذاكرة، وخاصة شارع «السويقة القديمة»، والذى كان مرصوف بحجارة البازلت الأسمر، فى ذلك الوقت، وكنا نمرّ منه دائماً ونحن فى طريقنا إلى الحضانة، وكان يجذب الأنظار خاصة فى فصل الشتاء.
ما أجمل هذه الأيام، بكافة تفاصيلها وأحداثها، ويا ليتها دامتْ لنا، فالقلب يحنّ إليها دائماً، نشتاق إلى هذه الأيام الخالية التى كانت تشرح قلوب البشر، وتضيء المكان بنقاء النفوس، ولكنها إرادة الله، فالتغيير هو سنّة حتمية من سنن الحياة، وكل حلو سينتهى، وكل مُر سيمّر، ولن تبقى لنا سوى الذكريات!