قبل سنوات طويلة من ظهور الحملات الإعلانية المكثفة التى تتكفل بتسويق كل شىء، دخل العنب قلوب كل المصريين، وصار الفاكهة الصيفية الأولى بفضل الفنانة شادية التى أحبها الناس، ودفعهم هذا الحب لإدمان تعاطى العنب الذى كان موضوعاً لإحدى أجمل أغنياتها. صحيح أن الناس كانت تحب العنب قبل ظهور شادية وقبل أغنيتها الشهيرة فى حقه، ولكن حبهم له تضاعف حين صارت كل ثمرة عنب يتناولها الشخص تقترن بذكريات الفنانة المحبوبة وصوتها الجميل وأغانيها ذات العذوبة الاستثنائية.
عوامل أخرى أسهمت فى السيادة الصيفية للعنب، أهمها أن البطيخ لم يعد مضموناً وتدهور إنتاجه كماً ونوعاً فى السنوات الأخيرة، والتين تدهور هو الآخر بسبب الطرق الحديثة فى الزراعة الهرمونية، أو السرطانية، والمانجو الحقيقى ثمنه مرتفع ويستحيل التفكير فى شرائه من جانب المواطن محدود الدخل، والشمام بتاع زمان لقى حتفه على يد وزارة الدكتور يوسف والى، والتين الشوكى والجميز والتوت وغيرها من الثمار الخائبة لا يكفى المتاح منها لتغطية احتياجات البشر الكحيان من الفواكه الصيفى، كما أن هذه الأشياء لا يمكن اعتبارها فاكهة.
فى موسم الصيف الحالى قال الزميل الذى يسكن أمام الوكالة فى الإسكندرية، والمتخصص فى أسعار كل الفواكه والخضراوات والسلع الغذائية، إن هذا الموسم مضروب بسبب مرض مفاجئ أصاب أشجار المانجو فى الإسماعيلية وقفز بثمن أصنافها المحترمة إلى أكثر من مائة جنيه للكيلو الواحد، وقال أيضاً إن التين والبطيخ متدهوران لأسباب غير معروفة. ونصح بالانتظار حتى النصف الثانى من يوليو، حيث موسم نضوج العنب البناتى الكهرمان.
مع بدايات النصف الثانى من يوليو قال الزميل المتخصص فى الأسعار والجودة إن ثمن كيلو العنب البناتى فى سوق عمر باشا، الذى تباع فيه سلع الدرجة الثانية أو الثالثة، وصل إلى عشرة جنيهات، ولكن النوعية غير مضمونة. وطلب من الزملاء الانتظار قليلاً حتى يتحسن الحال بالنسبة للطرفين، العنب والزبون! وفى نهاية يوليو والنصف الأول من أغسطس قال إن كيلو العنب المعقول صار يتراوح بين خمسة عشر وسبعة عشر جنيهاً، وطلب منا الانتظار مرة أخرى إلى أن تصبح الأسعار فى متناول المواطن الفقير. وفى الأسبوع الأخير من شهر أغسطس فوجئنا بارتفاع صادم فى أسعار هذه السلعة، حيث قفز سعر الكيلو إلى عشرين جنيهاً ثم خمسة وعشرين، ثم ارتفع فى بداية شهر سبتمبر إلى ثلاثين جنيهاً فى الأحياء الشعبية وخمسة وثلاثين فى الأحياء الراقية!
انزعج معظمنا من فكرة الاستغناء عن العنب هذا الموسم، خاصة أن عدداً منا مرشحون للرحيل قبل حلول الصيف المقبل بسبب التقدم فى العمر من ناحية وأمراض الشيخوخة من ناحية أخرى. وفى سياق البحث عن حل لهذه الأزمة اقترح البعض أن نكتفى بشراء كميات تذكارية من العنب فى حدود مائة وخمسين جراماً، أو أكثر قليلاً، وفق المقدرة المالية لكل منا، وقالوا إن شراء هذه الكميات الصغيرة متاح فى المولات الكبرى فقط، لأن الفكهانى التقليدى لا يسمح بشراء أقل من كيلوجرام. وقال زميل متدين إن عنب الدنيا وكل فواكهها ليست شيئاً إذا قورنت بما سوف ننعم به فى الجنة، ولا داعى إذن لتبديد الفلوس فى شراء العنب، ولكن هذا الاقتراح لم ينل إعجاب الآخرين، لأن عملهم فى الدنيا لا يصلح لدخول الجنة فى الآخرة! وبعد حوارات طويلة عبثية قرر الزملاء خوض مغامرة شراء العنب فئة الخمسة والثلاثين جنيهاً قبل أن يرتفع ثمنه إلى أربعين أو خمسين جنيهاً فى نهاية الموسم، وعاد الزميل الملتزم دينياً لنصحهم بألا يقدموا على هذه الخطوة الحمقاء إلا بعد أداء صلاة الاستخارة، لأن المسرفين إخوان الشياطين، ويتوجب على العبد الصالح حال اضطراره للإسراف أن يستأذن أولاً من خلال الاستخارة، فإن طابت نفسه لشراء كيلو العنب بعد الصلاة فلا بأس، أما إذا شعر بالحزن لفراق الخمسة والثلاثين جنيهاً فعليه أن يتوقف فوراً عن ارتكاب هذه المعصية.
قبل ساعات من تنفيذ مغامرة شراء العنب، قال الزميل المتخصص فى الأسعار إن حملة المقاطعة الشعبية للفواكه نجحت فى تعديل أسعار المانجو والبلح، وهبطت بها إلى ما يقرب من نصف الثمن، ونصحنا بشراء هذه السلع، مؤكداً أن المائة جنيه صارت تكفى لشراء ثلاثة كيلو مانجو محترم، وكيلو بلح فاخر، ويتبقى منها خمسة عشر جنيهاً يمكن استخدامها فى جلب بعض الجوافة. وأكد زميل آخر أن سعر كيلو القشطة «نوع من الفاكهة الأرستقراطية» قد هبط إلى عشرين جنيهاً بعد أن كان بمائة جنيه قبل الحملة الناجحة.
سألنا الزميلين بعد هذه الأخبار المفرحة عن أسعار العنب، فقال الزميل المتخصص إنها للأسف ما زالت تواصل الارتفاع، وإنها قد تصل -خلال الساعات المقبلة- إلى خمسين جنيهاً للكيلو، وقال الزميل بتاع ربنا إن صلاة الاستخارة لا تجوز فى هذه الحالة لأن العبد لا يحق له استفتاء الرب فى ارتكاب حماقة السفه والإسراف والاستسلام لشهوات قاتلة.
فى المراحل المقبلة من مشروع الإصلاح الاقتصادى قد يلجأ البرلمان والمجلس القومى للمرأة لتعديل قانون التحرش وإضافة مادة تسمح بحبس أى شخص يتسكع فى الأسواق ويطيل النظر للفاكهة المعروضة دون أن يشترى أى قدر منها، وقد تصدر فتوى دينية بمنع تعاطى العنب لأنه من العناصر الرئيسية فى صناعة الخمور!