أول اختبار شفوي بعد دخولي الجامعة.
نقف في انتظار دورنا أمام قسم التشريح، معيدو القسم ينظمون الطلبة، الأصابع ترتعد في خوف، الشفاة ترتجف، ترى كيف سيكون الاختبار؟
دعوت الله أن يكون الممتحن هادئًا ويتحدث معي بتهذيب وليسجل ما يحلو له في دفاتره ولا يهمني حتى لو أعطاني صفرًا كبيرًا.
من بين مواد السنة الأولى في الكلية لم أحب إلا التشريح، ولكن فكرة الاختبار الشفوي كانت مرعبة، أن تقف وجهًا لوجه مع أستاذ المادة ليسألك، في الاختبار التحريري لا أحد يتدخل بيني وبين ورقة الإجابة أستطيع أن أفكر في الإجابة وأراجع ما كتبت وأغيره، أحل ما أعرفه من أسئلة، ومالا أعرفه أراوغ و أؤلف فيه ما لم يسمع به أي من الأساتذة المصححين وما يستحق أن يوضع في أمهات الكتب والمراجع الخاصة بالنوادر والغرائب، أما الآن فلا مجال للتفكير أو المراوغة.نادى المعيد اسمي ففتحت الباب ودخلت.
كان الممتحن يجلس إلى طاولة عليها مجموعة من العظام وبعض المرطبانات الزجاجية من متحف التشريح مليئة بالفورمالين تسبح فيها عينات من أنسجة وأعضاء عليها علامات مرقمة.
لم يكن من أساتذة القسم !. لابد أنه ممتحن خارجي من جامعة أخرى، ما لفت انتباهي هو هيئته، كان لديه سالفان كثان أشيبان كأنما خرج للتو من رواية لشكسبير أو تشارلز ديكنز، وزاد من غرابته أنه كان يرتدي قبعة غريبة الشكل ومعطفًا، وكان مشغولًا بحشو غليونه.
هل من المعقول أنهم أحضروا ممتحنًا من بريطانيا خصيصًا من أجلي.
وقفت أمامه حتى انتهى من إشعال غليونه، تناول كشف الأسماء وقال نافخًا الدخان من فمه دون أن ينظر إليّ: اسمك إيه يا ولد؟
وقفت مذهولًا وقد صعقتني جملته، ماذا يعتقد هذا الرجل، هل أنا الجنايني الجديد الذي جاء يعمل في عزبة معاليه أنا طالب محترم في كلية الطب.
رفع وجهه إليّ ونظر لي من فوق نظارته وقال: ما اسمك؟
فلما قلت له اسمي أشار لي أن أجلس ثم تناول عظمة من أمامه: قلي ما هذه العظمة؟ ماهو الشريان الذي يمر في هذا المكان؟ ماهي العضلة اللي تمسك هنا؟ ماهي وظيفتها؟
ثم أمسك بأحد المرطبانات: ما هذا الشيء ذي اللون الأزرق هنا؟ همممم عظيم.
الحق يقال كان الرجل هادئًا وكان يوضح أسئلته إذا شعر بأنني لم أفهم السؤال، ولكن انطباعي الأول كان سيئًا، ثم إنه في النهاية قال لي: خلاص يا ولد، كويس.
تذكرت ماري منيب وجملتها الشهيرة "إنتي جاية هنا اشتغلي ايه؟".
لابد أن هذا الرجل درس في بلاد الخواجات وتأثر بهم وتقمص شخصية أحد أساتذته الذين نرى صورهم في المراجع القديمة.
بعد سنوات طويلة شاء القدر أن أؤدي أحد الاختبارات في بريطانيا، قفزت إلى ذهني ذكرى أول اختبار شفوي لي في الكلية وجملة "اسمك ايه ياولد؟"
إن كان الأستاذ المصري الذي درس عندهم بضع سنوات تكلم معي هكذا فماذا سيفعل معي أساتذة الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، توقعت أن يظهر اللورد كرومر في أي لحظة ليأمر بضربي بالسياط أو بتحويلي للقلم السياسي حيث يستجوبني توفيق الدقن بقسوة.
ولكن لدهشتي كان الأمر مختلفًا، فرغم أنهم كانوا عمليين بشدة وأن الاختبار يدور بسرعة تصيب بالدوار، إلا أنهم كانوا شديدي التهذيب، لم يقل لي أحدهم "يا ولد" بل إن أحدًا لم ينادني باسمي مجردًا قط.
من أين تعلم ذلك الأستاذ تلك الطريقة المتكبرة واللكنة الأنفية في الكلام، لابد أنه لم يدرس في بريطانيا بل أخذ هذه الانطباعات من الأفلام العربية القديمة عن الخواجات والاحتلال الانجليزي.
كما فعل أشرف عبد الباقي وهو يقول في اختبار التمثيل أنه يستطيع أن يمثل بالإنجليزي (إنتي أدهيم شركاوي؟ ساليم نفسيك أدهيم).