"الواعظ الصامت".. حكايات مسعف شهد الحوادث الكبرى: "مركب رشيد" لا ينسى
المسعف مدحت مجدي
"رائحة المشرحة، تناثر الأشلاء، جزع الأهالي"، كل هذه المشاهد تطارده لكن الأمور التي عانى من التعامل معها في البداية لم تعد تعنيه الآن، فدافعه الإنساني يقوى كلما مر على حادث أو كارثة.
فبعد ثمانية أعوام من الطواف مرتديا قميصه المزين بعلامة الهلال الأحمر المصري، لم يعد مسعفا فقط إنما أيضا شاهدا على الأحداث الكبرى فذاكرته مشحونة بالمآسي والتفاصيل حتى إن هناك حوادث لا يتذكرها بسهولة لكثرة ما مر عليه لكن أيضا هناك ما لا ينسى، فالذاكرة طبع حاد تتذكر المآسي أكثر من الأفراح وتسترجع الأحداث الغريبة وترفض العادية مع الوقت.
مدحت مجدي، الشاب الثلاثيني خريج كلية التجارة، الذي ترك الأرقام والحسابات والتحق بـ"خدمة الإنسانية"، يصف شعوره الحالي مقارنة بأول حادث شارك فيه، بـ"المختلف تماما" فشعوره بأهمية رسالته الإنسانية ظل يتأصل داخله كلما نظر إلى الأهالي، الذين لا يرغبون إلا في الاطمئنان على ذويهم حتى وإن كانوا "جثثا".
يقول مدحت، الذي يعمل منسقا لعمليات الدعم النفسي الاجتماعي في الهلال الأحمر المصري: رغم كثرة ما مررت به هناك أحداث لا تنسى، ففي حادث غرق "مركب رشيد" الواقع في سبتمبر الماضي، كان الوضع سيئا على المسعفين أكثر من الأهالي أنفسهم، كنا نشاهد الصيادين وهم ينتشلون الجثث بشباك الصيد، وكانت الجثث منتفخة وزرقاء، لكنا حاولنا ألا ندع هول المشهد يؤثر علينا.
ويتابع: وفي أثناء العمل على تقييم احتياجات الأهالي القادمين من الصعيد والمحافظات البعيدة، للبحث عن ذويهم الذين راحوا ضحية مركب الهجرة غير الشرعية الغارقة قبالة سواحل مدينة رشيد بمحافظة البحيرة وراح ضحيتها أكثر من مئتي غريق، كان هناك شاب في عمر المراهقة، منهارا يبحث عن أخيه بين الجثث، وصل به الحال إلى طلب أي جثة حتى أنه صمم أن يأخذ جثة أحد الأفارقة ليدخل بها على والدته، ويقول للمسعفين: "ادوني أي جثة أدخل بيها على أمي هتموت لو فضلت عايشة على أمل أنه يرجع لازم تعرف أنه أدفن عشان ترتاح".
"كان صعب السيطرة عليه" هكذا يصف حالته، فكانوا يقفون وحولهم الجثث، ويقول: أقنعناه إن "للميت حرمة" وأن ما يطلبه لا يصح، وأرسلنا فريق دعم نفسي لوالدته لتهوين الأمر عليها وركزنا على تهدئته، وهو ما جرى بالفعل حتى أنه بدأ يساعدهم متطوعا، وفتحت الأم بيتها للأهالي لمساعدتهم لحين العثور على جميع ضحايا الحادث الذي راح ضحيته نحو المئتين، وجرى إنقاذ آخرين.
"ليس من السهل التعامل مع الجثث لكن عزمت التغسيل في أحد الحوادث"، في العام الماضي شهدت البحيرة حادث تصادم قطاري الإسكندرية أو "قطاري خورشيد"، الذي راح ضحيته نحو أربعين شخصا، وأصيب فيه العشرات.
ويقول مدحت إن في حادث "قطاري خورشيد" المعروف إعلاميا بـ"حادث أبيس"، كان همنا الأول في بداية الحادث هو معرفة هوية الجثث فكان هناك العديد من الضحايا مجهولي الهوية، وبعد معرفة هوية جميع الضحايا بقى أمر واحد وهو "تغسيل الجثث".
"في الثانية صباحا كنت أقف واثنان من المتطوعين والسائق وأهالي الضحايا" أمام مشرحة مستشفى صدر المعمورة وكان الأهالي يريدون جثث ذويهم، منهارين في البكاء لا يريدون سوى "إكرام موتاهم"، وداخل المشرحة 7 جثث منهم أطفال ومسنون، "ظللنا نبحث عن مغسل لتغسيل الجثث" وبحثنا في المستشفيات والمساجد القريبة، حتى إننا اتصلنا بفرع الهلال الأحمر بالإسكندرية" لكن نظرا لتأخر والوقت وبرودة الجو لم نجد أحد يسعفنا.
ويتابع "استخارنا ربنا" وبعدها بلغنا دكتور محمود والعمليات أننا "سنغسل الجثث" حتى لا يجري تعقيد الأمور على الأهالي، وبدأنا بالبحث عبر الإنترنت لمعرفة تفاصيل عملية الغُسل، وهاتفنا طبيبا للاستعانة بخبرته، فأخبرنا أنه من الصعب تغسيل ضحايا الحوادث فإذا تلوثت القطنة بطل "الغُسل" واضطررننا لإعادته، لكن بمجرد أن دخلوا المشرحة كان "مغسلون" قد وصلوا إليهم.
"لوهلة شعرت كأننا في حرب" كان شعوره بين مصابي حادث الروضة مختلفا، بين هول فعل الإرهاب وقوة وصلابة المصابين، كان التحدي الوحيد كسب ثقة الأهالي، وهو ما حدث بالفعل، يقول مدحت إن قرية الروضة بها الكثير من القصص التي تستحق الحكي، لكنه لا يزال يتذكر الأسرة التي استشهد جميع رجالها، فقررت سيدات المنزل أن يتركن وراءهن ذكرياتهن ويهاجرن لمكان جديد، لكنه وفريق الدعم النفسي تحدثوا معهن وبعد نحو اليومين وجدوا السيدات عائدات.
ويتابع: قالت إحداهن "أنتوا غرب وقاعدين وبتقدموا خدمات ومش خايفين إحنا اللي اتربينا واترعرنا هنا ودمنا بيجري في الرملة اللي انتوا دايسنها هنسبها ونمشي، والله ما إحنا ماشيين منها"، فالقرية التي قدمت أكثر من ثلاثمائة شهيد وعشرات المصابين، أثبتت سيداتها أنهن قادرات على التأقلم حد التعافي، فتفاعلوا في برامج تفعيل وتمكين دور المرأة في المجتمع، وغيرها من الأنشطة التي ساعدتهن على تخطي مصابهم والعمل على أنفسهن.