وثَّقتُ فى المقال السابق عبارة الشيخ محمد الغزالى التى قال له فيها «البنا»: «لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات»، وأن «البنا» اعتبر هذه الرسالة أمانة فى أعناق الأجيال ليبلغوها لمن يأتى بعدهم، لذلك بلّغها «الغزالى» لأحد الرموز التاريخيين للإخوان وعضو مكتب الإرشاد الدكتور محمد فريد عبدالخالق.
حيث قال الدكتور فريد، فى حوار مع جريدة «الوطن» المصرية، أجراه معه الباحث صلاح الدين حسن بتاريخ 31 ديسمبر 2012م، العدد 246: ذات يوم حدثنى الشيخ محمد الغزالى أن «البنا» قد حدثهم فى جمع صغير بعد اغتيال «النقراشى»، فقال: «لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لرجعت بكل نشاطى وجهودى من حيث بدأت 1928م، أُعَلِّمُ الناس الإسلام، وأما المكانة السياسية والنفوذ الذى وصلت إليه الجماعة فإنى متنازل عنه، وأعتبر هذه الشهادة أمانة فى أعناق الأجيال ليبلغوها لمن يأتى بعدهم.
وفوق ذلك فإن فريد عبدالخالق يذكر أن «البنا» التقاه عام 1946م، وطرح عليه فكرة البحث عن حزب يتجه بأفكاره قريباً من أفكار الإخوان، كالحزب الوطنى الذى أسسه فتحى رضوان، أو أن يترك الأفراد تختار ما تشاء من أحزاب سياسية، فيكون لوجودهم أثر خلقى فى الحياة الحزبية، وقد أعاد «البنا» هذا الطرح على فريد عبدالخالق قبل وفاته، وقال له: «دبرنى يا فريد، والخناق يضيق علينا، ودخولنا العمل السياسى بهذا الشكل جلب علينا مشكلات كبيرة»، فنحن نلاحظ هنا أن «البنا» يعترف أنه متحير، ويطلب من «عبدالخالق» أن يدبره، ويفكر فى ترك الإخوان ليمارسوا السياسة من خلال الأحزاب لا من خلال الإخوان.
وأما الشهادة الثالثة فهى للدكتور عبدالعزيز كامل، ذكرها فى مذكراته: (فى نهر الحياة)، الصادرة عن المركز المصرى الحديث بتقديم د. محمد سليم العوا، حيث يتحدث عن خريف 1948م، وفى هذا الوقت الدكتور عبدالعزيز مسئول التربية فى الإخوان، ومن أقرب الناس لـ«البنا»، فيقول: (عاد الأستاذ المرشد من أداء الحج بفكر جديد، لم يكن يخفيه، وأود أن أسجل هنا اسم الحاج عبدالستار سيت، سفير باكستان فى القاهرة وقتئذ.. لقد كان رجلاً هادئاً، يخشى على الإخوان عواقب الخطوات العنيفة التى اتخذوها، وأخذ يذكر لـ«البنا» ما اتبعوه فى بلاده من عناية بتربية الشباب، فقوى فى نفسه الاتجاه نحو التربية، ولكن الرجل (أى البنا) عاد ليجد حوادث القنابل والانفجارات فى القاهرة، وإلى جوار الانفجارات مصرع المستشار الخازندار، ومصرع سليم زكى من رجال الأمن.. ملامح الصورة يرسمها المسدس والقنبلة والديناميت، وكانت ملامح القلق بادية على وجهه، حتى المحاضرات، وزيارات الأقاليم زهد فيها، بأذنى سمعتُ منه وصف هذه الاحتفالات العامة بأنها (شغل دكاكينى)، أى: عمل صغير متفرق لا قيمة له، ويأتى مصرع «النقراشى» ليضع الأستاذ فى أشد المواقف حرجاً، كان كل أمله -كما سمعت ذلك منه بنفسى- أن يخلص باسم الإخوان المسلمين ومائة شاب أربيهم ينتشرون فى الأرض، داعين إلى الإسلام، ويجادلون الله عنى يوم القيامة، وحين يسألنى أقول: «يا رب ربيت هؤلاء، ونشرتهم فى الأرض يدعون إلى دينك»، حصاد العمر الطويل: آلاف الشُّعَب، وآلاف المعسكرات، وآلاف الحفلات، والجرائد، والمجلات، والمنشورات، تركز عنده فى مائة شاب يلقى الله بهم).. انتهت شهادة الدكتور عبدالعزيز كامل، وبقيت شهادات أخرى نعرضها فى المقال المقبل إن شاء الله.