عندما تتوقف عن الكتابة لفترة تشعر بأن القلم عصىٌّ على الانسياب على الأوراق، أو أن يديك لا تطاوعانك على الكى بورد، وعند الارتحال من صحيفة إلى أخرى فإنك تأتى محملاً بأعباء تجربة قديمة ولكن تلازمك أيضاً نظرة جديدة إلى الكلمات ومن ثَمَّ الحياة، إذا كنت من الطموحين الغيورين على مهنتك، وإذا كانت «العتبة الجديدة»، كما نسميها بعاميتنا الرائعة، قد انتزعتك من عالمك بقدر تحديك للظروف والعقبات والملمات، فإنك ترغب أن تنفض عن نفسك غبار ماضٍ، وترتدى حلة المستقبل.
انتهينا من الخاص وإليك عزيزى القارئ العام.. ولتكن بدايتنا قصة: «أراد ساحر قوى تدمير مملكة فصب مُركَّباً سحرياً فى الآبار التى يشرب منها جميع سكانها، وكل من يشرب من هذا الماء يفقد عقله ويصبح مجنوناً.. وفى صباح اليوم التالى شرب الجميع، وتحولوا إلى مجانين ما عدا الملك الذى يملك بئراً مخصصة لاستعماله الشخصى مع عائلته، لم يستطِع الساحر أن يصل إلى بئر الملك، احتار الملك فى السيطرة على سكان مملكته رغم اتخاذه سلسلة من الإجراءات الأمنية والصحية، فحتى رجاله من الشرطة والمحققين كانوا أيضاً قد شربوا من الماء، فقرروا ألا يطبقوا قرارات الملك التى وجدوها منافية للصواب، أما سكان المملكة فأيقنوا أن الملك قد جُنَّ بعد إصدار هذه المراسيم لضبط البلاد، فاتجهوا إلى القصر صارخين، طالبين منه التخلى عن العرش، فيئس الملك وأعدَّ نفسه للتنازل عن العرش، لكن زوجته منعته قائلة: «لنذهب إلى النبع ونشرب فنصبح مثلهم».. فشرب الملك والملكة ماء الجنون وراحا فى الحال يتحدثان بكلام أخرق، فى اللحظة نفسها تراجعت الرعية عن مطلبها بالتنحى، وسرت همهمات: (إذا كان الملك يحمل هذا القدر من الحكمة، فلماذا يترك الحكم)؟ فعاد الهدوء إلى البلد حتى إن بقى سكانه يتصرفون بطريقة مختلفة عن جيرانهم، واستطاع الملك أن يحكم حتى آخر أيامه؛ لأنه وشعبه مجانين».
الحالة المصرية ليست ببعيدة كثيراً عمَّا حدث فى دولة الملك المجنون؛ فالجميع يشربون من البئر المسمومة، والسلطة الحاكمة منحتهم فرصاً نادرة للجنون، سواء من تحالفت معهم أو ضدهم؛ فمن تصدَّر المشهد فعل مثلما يفعل نادى الزمالك دائماً: يفوز بجميع مبارياته ثم يخسر الدورى فى النهاية.. الجميع ضد الجميع، حتى الثائر لا بد أن تفحص بطاقته وجيوبه وتتفحص ملامحه وتفتش أغراضه، لكى تتأكد أنه وجه صبوح من وجوه يناير، الأحرار خارج الصورة، والمتسلقون عادوا، وتامر أمين يقدم برنامجاً فى قناة راتب، وشفيق يجوب مصر، وموسى السبعينى يدعى أنه «أد التحدى» وأبوالفتوح يتحدث عن إقرار الذمة الصحية ولا ينظر إلى صحته المعتلة، والشاطر أساسى ومرسى استبن، والمجلس العسكرى يخاطبنا من خلال «أدمن وغاز ورصاص».. إنها فعلاً بئر مسمومة وأناس مجانين!
كلمة أخيرة: من «المصرى» إلى «الوطن».. نبدأ كلمات نحسبها مفيدة لوطن ينتظر منا أن نبعث فيه روحاً وثَّابة تكره القهر وتهتف للحرية، وتتمنى عالماً لا ترى فيه صديقاً أو نصيراً لمبارك على كرسى الحكم.