" وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِعلى وُجُوهِهِمْ ،إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ"
صدقت يا رسول الله
لا أتكلم هنا عن الكذب والغيبة والنميمة والمجاهرة بالذنب وخلاف ذلك من الذنوب ولكنى أتحدث عن نوع آخر من حصاد الألسنة.
درسنا قديمًا الكثير من القصص عن فطنة اللسان التي قد تنجي صاحبها ومثال على ذلك القصة الطفولية عن الملك الذي رأى منامًا فسأل أحد مفسري الأحلام فقال له (سيموت كل أبناؤك) فغضب الملك وقتله ولما سأل مفسرًا آخر فقال له ( سيمد الله في عمرك كثيرًا وسيدوم حكمك طويلًا حتى أنك ستعيش أكثر من أبنائك) فكافأه الملك رغم أنه قال نفس الشيء ولكن بطريقة ذكية.
في الحياة العملية أنا أؤمن أن للمريض الحق الأصيل في معرفة تشخيص حالته ونسبة الخطورة واحتمالات الشفاء ويشارك في اختيار خطة العلاج إن أمكن مع الوضع في الاعتبار الخلفية الثقافية للمريض وحالته النفسية والعقلية.
لا أدري إن كانت كليات الطب في مصر بدأت تدريس هذه الأمور ولكني أثناء دراستي لم نتطرق إليها قط، كنا ندرس كيفية أخذ التاريخ المرضي، فحص المريض، الفحوصات، كيفية التشخيص ووضع خطة العلاج أما كيفية توصيل كل هذه المعلومات للمريض ودمجه في اختيار خطة العلاج فمتروكة لفطنتك.
في الدول الغربية يمثل الـ "Communication “ أو التواصل مع المريض وأهله جزء هام وأساسي في الاختبار. يدور حول التواصل مع المريض وحل مشاكله أو إقناعه بإجراء معين أوكيفية إخباره بخبر سيء أو Breaking Bad News.
هذا علم منفصل ولكنه على حسب علمي لم يشق طريقه إلينا بعد.
وهناك شروط أساسية؛ لابد أن تكون متأكدًا من أي معلومة أو تشخيص قبل نقله للمريض، كن صريحًا وواضحًا، لا تعطي أملًا زائفًا، لا تسامُح في الكذب أو إعطاء معلومات خاطئة تستطيع أن تقول أنك لا تعرف (وهي محرمة في ثقافتنا العربية لابد أن تعرف كل شيء أو تتظاهر بذلك).
هناك طبعًا الكثير من الأخطاء، في الواقع العملي الأمر لايكون بهذه المثالية، ولكن لتلك الأخطاء حدود، فهناك أخطاء لا تغتفر ولا يوجد مبرر لها قط.
على سبيل المثال؛ فجأة وجدته أمامي في منطقة الحالات الحرجة في قسم الطواريء."لو سمحت يا دكتور، ممكن استشارة؟".
أشرت بذراعي إلى السيرك المنصوب حولي من مرضى وأطباء وممرضات وأجهزة تطلق صافرات إنذار باستمرار فيما معناه أنني مشغول جدًا كما ترى.
"أنا آسف جدًا، أنا أعرف أنك مشغول ولكني استأذنت من مشرف الطواريء أن يدخلني لأن الأمر هام جدًا"
نظرت إليه، شاب لم يبلغ الثلاثين من عمره، يبدو بصحة جيدة ولكن وجهه أصفر وعيناه ذابلتان وزاوية فمه ترتعش كلما تكلم، يحمل ملفًا كبيرًا.
لم أستطع الرفض فقلت له "تفضل واشرح لي الأمر هنا فأنا لن أستطيع أن أخرج معك كما ترى"فتح الملف وأخذ يريني ما فيه.
"هذا رسم قلب تم عمله في مستوصف وهذا في مستشفى خاص وهذا في مستشفى حكومي ، رسم قلب بالمجهود، تحاليل إنزيمات القلب، أشعة على الصدر، تقرير إيكو قلب ....".
وسط ضوضاء الطواريء سقطت الكثير من الكلمات فبدت لي قصته غير مترابطة فأغلقت الملف وسألته: لماذا قمت بكل هذه الفحوصات؟ مم كنت تشكو؟
-لا شيء، ولكن قريبًا لي في نفس سني توفي فجأة، فذهبت لأحد المستوصفات لأطمئن على نفسي، وبعد ما رأى الطبيب رسم القلب الخاص بي قال لي " أنت فعلًا محظوظ، كان من المفترض أن يدفنك قريبك ذاك لا أن تدفنه أنت، لا أدري كيف تعيش بحالتك هذه"، ثم حولني على مستشفى حتى يكشف عليّ طبيب قلب.
*هل أنت متأكد أن من قال لك هذا طبيب؟
-نعم، ولكن طبيب القلب قال أن حالتي جيدة ولكني لم أصدق وذهبت لمستشفى آخر و....
أخذت أسأله عن حالته قبل ذهابه للطبيب وعن مجهوده في العمل والأعراض التي يشعر بها ثم فحصت الملف الممتليء.
*اسمع يا سيدي، قلبك سليم ولم يكن هناك داعٍ لكل هذه المتاهة وكل هذه الأموال.
-بالفعل لقد دفعت مبالغ طائلة على تلك الفحوصات ، بالإضافة إلى غرامة غيابي عن عملي طوال العشرة أيام الماضية، ولكن ماذا أفعل؟ أنت ثالث طبيب يقول لي أنني سليم ولكنني أشعر أني مريض جدًا ولا أستطيع أن أقف على ساقيّ. بم تنصحني إذن هل أذهب لمستشفى أكبر؟
*رأيي ألا تذهب لأي مستشفى أنت بخير عد لعملك وحياتك وانس الأمر وإن كان لابد أن تذهب لطبيب فلتذهب لطبيب أمراض نفسية.
حاولت أن أقنعه بقدر الإمكان ولكن نظرات عينيه كانت تقول أنه مازال في شك، أعتقد أن هذا الفتى سيحتاج إلى تأهيل نفسي بالفعل.
وكما قال عبد الرحمن الشرقاوي "الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور".