غالبًا لا نعرف معنى القومية العربية إلا عندما نتعامل مع جنسيات أخرى غير عربية وقتها فقط تدرك أن العرب مع اختلافهم يظل هناك ما يربطهم ويجمعهم سويًا، فبرغم أن الوطن العربي بمساحته الشاسعة مليء بالأعراق المختلفة والبيئات الجغرافية المتباينة وبالتالي فهناك لهجات وخلفيات ثقافية واجتماعية كثيرة ولكن في النهاية تجد خيطًا متينًا يربطهم.
فستجد العربي يعرف عبد الحليم حافظ وأحمد زكي وعمر خيرت، ويفهم ايفيهات عادل إمام وأحمد مكي وأحمد حلمي، تستطيع أن تتكلم معه عن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أو أفلام إسماعيل ياسين أو قصائد نزار قباني. ستجد في بنائه النفسي صوت فيروز وروايات نجيب محفوظ وألبومات عمرو دياب، أذان الشيخ محمد رفعت، د.مصطفى محمود، أغاني سميرة سعيد وموسيقى عمار الشريعي.
كلنا نعرف حسام حسن وسامي الجابر ومصطفى حاجي ويونس محمود وأبو تريكة ورياض محرز ومحمد صلاح، ربما كرة القدم وتعصبها هي ما يفرقنا.
هذا طبعًا بخلاف الخلفية الدينية - التي تمثل عاملًا هامًا وأساسيًا- والتاريخ المشترك؛ فستجد في تلافيف مخ أي عربي أسماء صلاح الدين والمتنبي وعقبة بن نافع وهارون الرشيد وخالد بن الوليد.
لذلك تشعر دائمًا أن العربي هو "بلدياتك" رغم بعد المسافات، فقط عليك البحث عن الخيوط المشتركة وستجدها بسهولة.
من بين الجنسيات العربية التي تعاملت معها، وجدت أن أكثرهم قربًا للمصريين في طباعهم وعاداتهم وأكلاتهم ولبسهم هم السودانيون.
أجل هذا البلد الذي طالما تغنَّينا بأنه العمق الإستراتيجي لمصر وأن مصر والسودان كانا بلدًا واحدًا وأخوة النيل وما إلى ذلك من كلام نظري لا نعرف معناه إلا عندما نتعامل معهم.
طبعًا هناك نماذج خالفت توقعاتي ولكن الطابع العام والأغلبية من الشعب السوداني هم أطيب أهل الأرض وأكثرهم كرمًا وبشاشة.
بالإضافة إلى ذلك هم أكثر العرب محبة لمصر وأهلها.
رغم ذلك لا نعرف نحن المصريون شيئًا عن السودان بخلاف النيل الأزرق والأبيض وجعفر النميري والهلال والمريخ وفيصل العجب وشطة، هل تعرف أي مدينة سودانية بخلاف الخرطوم وأم درمان؟ للأسف لا.
على العكس من ذلك ستجد السوداني يعرف معظم المدن المصرية وأحياء القاهرة والإسكندرية وربما درس في الأزهر أو زار خالته التي تقيم في الدرَّاسة أو عمه الذي يعمل في بورسعيد واشترى أشياء من العتبة وسوق العبور ويعرف عاداتنا وأكلاتنا.
من بداية تعاملي مع السودانيين بهرتني أهم ميزة فيهم؛ ترابطهم. الجالية السودانية في أي بلد هي أقوى الجاليات (طبعًا لا داعي للكلام عن الجالية المصرية -إن سميناها جالية- والتي يشهد الجميع أنها الأسوأ على الإطلاق)، أي وافد سوداني جديد يجد نفسه وسط أهله، الكل مسئول عنه، لديهم اجتماعات دورية وإفطار جماعي مرتين أسبوعيًا في رمضان. أي سوداني يريد السفر لأي بلد عليه فقط أن يجد سودانيًا آخر هناك فيصير فورًا مُلْزَمًا منه دون نقاش، وهم بالفعل منتشرون في كل بقاع الأرض لا يهابون السفر مثلنا، فبخلاف الجاليات الكبيرة في أمريكا وغرب أوروبا والدول العربية قابلت سودانيين قد درسوا في باكستان والهند وماليزيا والفلبين وجنوب أفريقيا وتشيكوسلوفاكيا (قبل حلها) وروسيا.
الميزة في السوداني أنه لا ينفع أخيه السوداني فقط بل وينفعك أيضًا. إذا سألت سودانيًا عن دراسة أو اختبار ما أو كيفية إصدار مستند فإنه يجيبك بكل ما يعرف ويعرض عليك أن يزودك بالمصادر ولا يمل من أسئلتك. جرب واسأل مصريًا :" فقط ذاكر وبعدها نتحدث عن الاختبار- الكتب موجودة في كل مكان- أجل هناك مواقع على الانترنت ابحث عنها- اذهب هناك فقط واسأل وستجد من يدلك).
عندما عدت مع أسرتي إلى السعودية ورغم أن لي الكثير من الأصدقاء والأقارب اتصلت فقط بصديقي السوداني فوجدت أنه قد حجز لي في فندق يوم وصولي!
رأيي في السودانيين مبنيٌّ على مواقف كثيرة لا يتسع المجال لذكرها حدثت لي شخصيًا معهم. مثال على ذلك.
تم بيع المنزل الذي أقيم فيه، المالك الجديد لا يريد أن يؤجر المنزل ويريدني أن أخلي الشقة، عرضت عليه زيادة الإيجار بلا فائدة، دوامة من الصداع والمشاكل، بحث عن سكن مناسب، أنا كنت أنوي أن أغادر البلد بعد شهور قليلة ولا ينقصني نقل أثاث وترتيب سكن جديد.
أخبرت المالك الجديد أنه كان لابد أن يخطرني قبلها بشهر حسب العقد وأنه لابد أن ينتظر حتى أجد سكنًا مناسبًا.
المهم وسط هذه الدوامة في هذا المكان الذي أعمل فيه وسط مجموعة كبيرة من الزملاء والأصدقاء منذ سنوات يأتيني اتصال غير متوقع.
شاب سوداني يعمل حديثًا معي في نفس المكان ولكن في قسم آخر، لم يسبق أن تحدثنا سويًا أكثر من (السلام عليكم - صباح الخير)، الفتى يخبرني أنه يقيم وحده في شقته لأن زوجته في السودان وأنه سمع أنني أبحث عن سكن مناسب ولم أجد بعد ، فاتصل ليخبرني أنه جهز حقيبته ليذهب للإقامة مع زميل آخر يقيم وحده أيضًا ويطلب مني أن أذهب لأقيم في شقته.