حالة الارتفاع الجنونى فى الأسعار التى تسود الأسواق منذ فترة ليست بالقصيرة قد أربكت جميع المواطنين وأصبحت لا تطاق بعد أن تجاوزت كل الحدود المنطقية وباتت أسعار السلع والخدمات لا تعبر عن واقع قيمتها الحقيقية، ليصبح الغلاء وارتفاع الأسعار هو الموضوع الوحيد الذى ينجح دوماً فى اختراق الصمت الأبدى بين الأزواج.. والقضية المطروحة دائماً على الحوار سواء فى المقاهى الشعبية أو الكافيهات أو الفنادق..!
الجميع أصبحوا يشكون سواء هؤلاء الذين اعتادوا لظروف خارجة عن إرادتهم الالتفاف حول طبق لتصيد بقايا طعام عالقة بجدرانه الصدئة أو بجسمه البلاستيكى محترق الأطراف وكأنه تعرض لعملية تعذيب وحشية.. أو أولئك الذين ينتقون أصناف طعامهم من قوائم مكتوبة بحروف لاتينية فى أى فندق.. غير أن شكوى الفئة الأولى قد وصلت حد الصراخ بينما جاءت شكوى أهل الصفوة بصورة عابرة ضمن أحاديث مسائية كدلالة فقط على أنهم لا يزالون ينتمون إلى المجتمع !!
فى كل مناسبة وعند مواجهة أى موجة جديدة من الغلاء يحلو للمسئولين التأكيد على اعتزامهم تطبيق حزمة من الإجراءات للسيطرة على الأسعار والحيلولة دون انفلاتها إلا أن الواقع العملى يؤكد عكس ذلك تماماً، بدرجة أصبحت معها تأكيدات هؤلاء المسئولين مادة يومية للصحف لا نصيب لها من الحقيقة فى ضوء إصرار الأسعار على اختراق كل الحواجز بلا أى منطق.. ولم يعد هناك أية سيطرة عليها.!!
ارتفاع سعر السلع وبخاصة الغذائية منها جاء ليكشف عن ثقافة بدأت تتأصل وتغرس أنيابها فى المجتمع وهى «ثقافة الانتهازية»، إذ سارع أباطرة السوق إلى رفع أسعار كل السلع لتطول حتى «البطاطس» التى كانت الملجأ الوحيد أمام الأسر الفقيرة لسد جوع الأبناء..!
وإذا كنا قد اعتدنا طوال عشرات السنين على دقات ساعة جامعة القاهرة التى تدق كل 15 دقيقة، فإنه يبدو أننا سنعتاد قريباً على أننا سنشهد ارتفاعاً فى الأسعار بذات المعدل: «زيادة جديدة كل ربع ساعة»، بعد أن دخلت الأسعار دائرة المنافسة معها..!! وعلى غرار ما اعتدناه من جانب الحكومة لطمأنة المواطنين فإن الدكتور حامد عبدالدايم، المتحدث باسم وزارة الزراعة واستصلاح الأراضى، أكد أن أسعار البطاطس ستنخفض خلال شهر على الأكثر بعد نزول «العروة الجديدة» إلى السوق.. وهو أمر أستبعد حدوثه، فالأسعار لن تعود إلى سابق عهدها حتى وإن انخفضت بعض الشىء «فدخول الحمام ليس كالخروج منه» كما يقول المثل الشعبى..!
متحدث الزراعة رأى خلال مكالمته الهاتفية مع أحد البرامج التليفزيونية: «أن الارتفاع فى أسعار البطاطس أو أى محصول خضرى فى هذا الوقت من العام أمر طبيعى»، موضحاً أن الكمية المخزنة ليست كبيرة ولهذا قلّ العرض وارتفعت الأسعار، وفى لهجة آملاً منها طمأنة المواطنين قال عبدالدايم: «إن الوزارة بصدد التفتيش على الثلاجات للتأكد من عدم احتكار البطاطس»، ونفى أن يكون بعض التجار قد تسببوا فى ارتفاع أسعار البطاطس بسبب الممارسات الاحتكارية حتى لا يلقى أحد باللوم على الحكومة بسبب عدم تفعيل ما تمتلكه من قانون «منع الاحتكار» غير أنه عاد ليطمئن نفسه هذه المرة ليقول: «مفيش إنسان وطنى عنده ضمير يعمل هذا العمل»، وإذا كنا فى السابق قد اعتدنا على أنه فى كل مناسبة من المناسبات الدينية أو الأعياد أو فى موسم علاوات الموظفين أن ترتفع الأسعار بصورة يتعمد المسئولون تجميلها بوصفها مجرد تحريك للأسعار، إلا أن الواقع يؤكد أن الأسعار أصبحت لا تتحرك بل «تنطلق».. وهو ما يحدث بالفعل الآن على الرغم من أننا لا ننتظر أى مناسبات دينية فيما أن الحكومة صامتة لم تُلمّح إلى اعتزامها زيادة المرتبات أو منح أى علاوات للموظفين..!
غير أن السؤال: إذا كانت وزارة الزراعة ترى أن أسعار البطاطس فى هذا الوقت من العام أمر طبيعى فلماذا لا يتم تخزين كميات من هذا المحصول لتدفع به إلى الأسواق كل فترة -وأعتقد أنه غير قابل للفساد بسهولة- للسيطرة على الأسعار أو على الأقل تقصير فترة ارتفاع أسعاره إلى أقل فترة ممكنة وبخاصة أن «هذا الوقت من العام لم يجئ فجأة بل إنه أمر متكرر»؟.. وسؤال آخر: ما فائدة إنشاء «بورصات» للمحاصيل لتوفيرها وهى الإجراءات التى أعادت الحكومة تكرارها أكثر من مرة؟!
واقع الحال يدفعنا إلى ضرورة إيجاد وسائل حاسمة لمواجهة غول الغلاء الذى ينهش معظم المواطنين، وأن نهجر تلك التعبيرات التى اعتدنا أن نسمعها من مسئولى الحكومة «زيادة أسعار أى محصول خضرى أمر طبيعى فى مثل هذا التوقيت من العام»، وأن نتقدم بجرأة إلى إعادة التسعيرة الجبرية دون أن نخشى مزايدات البعض من أن ذلك يمثل عودة إلى الانغلاق وردة عن الاقتصاد الحر وخنق حرية العرض والطلب، باعتبار أن السوق بات مفتوحاً، فأباطرة السوق عادة ما يجدون وسائل عدة للهروب من أى التزام فكل ما يهمهم هو تراكم ثرواتهم على حساب المواطنين..!
وإذا سلمنا مرغمين بمنطق واقع السوق وأن لأصحاب الأعمال الخاصة أسلوباً فى تجاوز أزمة الغلاء لأنفسهم فقط من خلال فرض ما يحلو لهم من أسعار لمنتجاتهم أو بضائعهم الأخرى فإن الأمر لا ينسحب على فئة الموظفين من أصحاب الدخل المحدد ولا أقول أصحاب الدخول المحدودة أو المنعدمة الذين لن يجدوا وسيلة لمواجهة ذلك سوى الاستغناء عن كل ما لا يستطيع المرتب شراءه.. غير أنه حتى هذا الحل سيصبح محدوداً أمام مطالب الحياة اليومية وإلا وجد المواطن نفسه مجبراً على العودة إلى عصر الكهوف، لأنه وقتها فقط لن يجد نفسه مطالباً بسداد أية فواتير للكهرباء أو التليفون أو حتى إيجار الكهف ذاته!!
وفى ظل الظروف الاقتصادية التى نعانى منها سواء من ارتفاع أسعار السلع وانخفاض عائد المدخرات فى البنوك إن كانت هناك أى مدخرات ولأننا اعتدنا منذ السبعينات من القرن الماضى على ظاهرة اقتصادية كانت جديدة وقتها وهى ظاهرة «الدوْلرة» -أى تحويل المدخرات إلى الدولار ضماناً للحفاظ على قوتها الشرائية- فإنه يبدو أننا سنعايش فى القريب العاجل ظاهرة جديدة أخرى هى ظاهرة تحويل هذه المدخرات إلى «شيبسى» حفاظاً عليها أيضاً من انخفاض قيمتها..!