الست فى مصر كعبها عالٍ على الرجل.. الرجل قد يبدو قوياً طاغياً على ملأ، لكنه مُستأنس وأليف عندما يخلو إلى زوجته. الست المصرية تحكم الرجل من وراء ستار.. البعض يُردّد هذا الكلام فى وصف العلاقة بين الرجل والمرأة فى مصر.
ولهذا الكلام أصل يرتبط بحكاية طريفة قصّها المؤرخ «ابن عبدالحكم» فى كتابه: «فتوح مصر وأخبارها».. تقول الحكاية إنه لما غرق فرعون ورجاله، وآمن بقية القبط من سحرة فرعون بموسى عليه السلام، وفرّوا معه من مصر اختفى الرجال من أرض المحروسة، ولم يعد فيها من ذكور سوى العبيد والأجراء، وأصبح غالب المصريين نساءً.
فى هذه اللحظة ظهر على مسرح الأحداث امرأة يُقال لها «دلوكة»، يقول «ابن عبدالحكم» إن عمرها كان يقترب من الـ160 عاماً تبوأت عرش مصر، وأصبحت ملكة على البلاد، واحتلت النساء كافة المناصب الأخرى المحيطة بالملكة. استقرت الأمور على ذلك ردحاً من الزمن، لكن كان ثمة خوف يسيطر على «نساء الحكم» من غارات الأعداء، وتحدّثن فى أن هذا الأمر سيصبح أمراً واقعاً بمجرد أن يعلم الأعداء أن مصر قد خلت من الرجال بعد غرق فرعون وجنوده. لجأت «دلوكة» إلى إحدى الساحرات، وصنعت لها سحراً عبارة عن مجموعة من الصور التى تستطيع الملكة أن تموه بها على الأعداء.
بقيت بعد ذلك مشكلة أخرى تتعلق بحاجة النساء إلى الزواج من الرجال. قلت لك إنه لم يبقَ فى مصر بعد غرق فرعون ورجاله سوى العبيد والأجراء، ولم يكن أمام المصريات من سبيل سوى الاستعانة بهم كحل للمشكلة. فلجأت كل امرأة إلى عبد لديها، فأعتقته، أو أجير فرفعته إلى مقامها وتزوجته، لكن سيدات مصر اشترطن على الأزواج «الدرجة تانية» ألا يقدموا على أمر إلا بإذنهن، وألا يتخذوا قراراً إلا بعد العودة إليهن، وإلا فللرجال الويل والثبور وعظائم الأمور.
يقول «ابن عبدالحكم»: «إن القبط على ذلك إلى اليوم اتباعاً لمن مضى منهم، لا يبيع أحدهم ولا يشترى إلا قال أستأمر امرأتى، فملكتهم «دلوكة» عشرين سنة تدبر أمرهم بمصر حتى بلغ صبى من أبناء أكابرهم وأشرافهم، يقال له دركون بن بلوطس، فملكوه عليهم». كتب «ابن عبدالحكم» هذا الكلام ليصف حال المصريين الأصلاء خلال النصف الأول من القرن الثالث الهجرى، وأراد من خلالها أن يقول إن نساء القبط (يقصد المصريين) يتمتعن بأيدٍ ثقيلة على رجالهن، وإن الرجل لا يستطيع أن يبرم أمراً إلا بالرجوع إلى امرأته، وإلا ناله أذاها بشكل يجعله يتوب عن العودة إلى مثل هذا الفعل مرة ثانية. قد يكون هناك ظلال من الحقيقة فى هذا الكلام، وربما كان من بين المصريين من لا يقدر على تجاوز امرأته بقرار، قد يكون ذلك من باب الإيمان بالديمقراطية العائلية، وربما كان من باب الخوف، لكن الأمر الواجب أن نلتفت إليه أن ما استوقف «ابن عبدالحكم» فى العلاقة بين الزوج والزوجة المصرية فى عصره، وفسّره بهذه الحكاية العجيبة، كان يعكس الحضارة المتجذّرة لدى هذا الشعب، والميراث الفرعونى الذى يدعو إلى احترام المرأة، خلافاً للثقافة العربية، التى جاء منها، وعبّر عنها المؤرخ الكبير.