"الاستكثار".. ذلك الداء اللعين الذي يتمكن من كثيرين، يجعلهم ينظرون لمن حولهم نظرة قاسية تنم عن سؤال: "ماذا فعلتم حتى تحققوا ما وصلتم إليه؟
أكم من شخص حولك تمادى في الهجوم عليك دون وجه حق؟ وأكم من نقد لاذع انهال على شخصك بسبب ترقيتك في العمل؟ وأكم من اتهام باطل أصاب شرفك بسبب مكانة مرموقة وصلت لها؟ أكم من شخص "استكثر" النجاح الذي وصلت له وسمح لنفسه أن يخوض فيك وفي اجتهادك وينصّب نفسه آلهًا يسلب منك ما منحه الله لك من نجاح وتوفيق؟
حتمًا عزيزي القارئ خطر ببالك موقف ما شعرت أن محاط بسُلة من "المُستكثرين"، هؤلاء الذين لا يروا سوى الإنجاز الذي حققته بينما يتناسون كواليس هذا الإنجاز من ليالي العمل والاجتهاد والتحمل والصبر، يغضون البصر عن نوبات اليأس والإحباط التي عصفت بك، ويتجاهلون فترات الاكتئاب التي مررت بها وأنت تشعر بالابتعاد عن حلمك وهدفك، وعندما تحقق مرادك من النجاح لا تجد منهم سوى الطعن في اجتهادك ومسيرتك، واتهامك وقذفك بالأباطيل، ومن ثم يعتبرون أن "الحظ" حليفك.. أليس ذلك الإجحاف في أبهى صوره؟
هذا ما خطر ببالي عندما أخذتني فرقة "1980 وأنت طالع"، في رحلة إلى مسرحيتهم الجديدة "البروفة"، والتي تعرض هذه الأيام على مسرح النهار بشارع قصر العيني، وتهدف إلى تسليط الضوء على كواليس العرض المسرحي الأنجح 1980 وأنت طالع، والذي استمر عرضه طيلة 7 سنوات، كان سببًا رئيسيًا فيها لإعادة الحياة إلى مسارح وسط البلد، وتحميس الشباب الموهوب على إنشاء الفرق الصغيرة مجددًا، ومنح الحركة المسرحية الراكدة في مصر صدمة كهربائية عن طريق عرض مختلف أبطاله من الشباب، وتم تقديمه بأقل الإمكانيات المتاحة، حتى أصبح أحد علامات المسرح مؤخرًا وتقلد العديد من الجوائز في المهرجانات التي شارك بها.
عندما تشاهدون عرض البروفة، ستعلمون أن وراء أي إنجاز طريق طويل من الجهد والسهر والتخبط واليأس والإحباط والسقوط ثم الوقوف مجددًا والاستمرار في طريق الحلم الأسمى من كل تلك المعاناة، عرض البروفة رصد جزءًا من التحضيرات لمسرحية "1980 وأنت طالع".
اطلق العنان عزيزي القارئ لخيالك، وتوقع كم المشكلات التي مر بها أبطال الفرقة حتى وصلوا إلى حلمهم، بداية من صعوبة إنتاج مشاهد فنية مبتكرة تعبر عن الناس وتقدم مزيجًا من الكوميديا غير المبتذلة مع الدراما العميقة، مرورًا بالأزمات المادية التي واجهت كل أفراد الفرقة الذين اضطر بعضهم لترك عمله والتفرغ لحلمه، بينما استمر البعض الآخر بين عمله الذي يوفر له المال البسيط والبروفة التي تشبع شغفه وتلبي حلمه، وصولًا إلى أزمة عدم وجود مسرح يحتضن عرض مجموعة من الشباب لم يعتمدوا على أي عنصر إثارة سوى موهبتهم وإيمانهم بنفسهم.
إذا سمحتم أن أخرج عن البروفة قليلًا، ودعوني أشارككم في حدث مهم لي على المستوى الشخصي. منذ أيام حلفت اليمين كعضو رسميًا في نقابة الصحفيين، ولطالما حلمت بعضوية النقابة منذ قرابة 8 أعوام عملت خلالها بالصحافة، وكثيرون تعجبوا من احتفائي بالعضوية وسعادتي بها؟! ما الذي سيضيفه لك هذا الكارنيه؟ فهو ليس تأشيرة العمل الصحفي، ولكنه مجرد اعتماد رسمي من الدولة.. فلماذا هذا الاحتفاء؟
ما لا يعلمه السائلون، أن خلف هذا الكارنيه سنوات من العمل الشاق بدأتها طالبًا، شاهدت خلالها ظروفًا عصيبة لم تمر في حياتي مرور الكرام، تذوقت مرارة الرسوب في سنة دراسية كاملة واضطررت لإعادتها وتحملت لقت "راسب" الذي كان مستجدًا على حياتي التعليمية، تحملت قلة الموارد المالية بسبب سوق الصحافة المصري والذي يبقى راتب الصحفي المبتدئ فيه أقل من 1000 جنيه لمدة طويلة من عمره؛ لذلك تتجه الغالبية العظمى من الصحفيين إلى العمل في وظيفتين حتى يستطيعوا توفير الحد المادي الأدنى اللازم لحياة كريمة، فضلا عن أوجاع الظهر والرقبة التي طرأت عليّ مبكرًا بسبب كثرة الجلوس أمام اللاب توب وأجهزة الكومبيوتر.
خلف كارنيه نقابة الصحفيين أيام عديدة من العمل في شيفت الفجر وما أدراك ما شيفت الفجر.. هذا الشيفت الذي يحوّل صاحبه تدريجيًا إلى "زومبي" لا يستطيع العيش نهارًا ولا يعلم الفارق بين كلمتي "اليوم وأمس". خلف هذا الكارنيه فرص عديدة مُهدرة للعمل بشهادة التجارة التي حصلت عليها في سبيل الحلم واستمرار طريق الصحافة.
خلف هذا الكارنيه رفاهيات كثيرة ودّعتها فلم أعد أعتبر نهاية الأسبوع إجازة، مثلما تناسيت الإجازات الرسمية مثل الأعياد والمناسبات الوطنية نظرًا لالتزامي العمل خلالها، إضافة إلى بحثي الدائم عن الفكرة الصحفية في كل شيء، مأكل أو مشرب أو حتى حوار مع سائق تاكسي.
وللأسف.. خلف عضويتي في نقابة الصحفيين، طعن قدمه أحد الزملاء في شخصي، مستكثرًا عليّ العضوية وكأني لست أهلًا لها، فكان طعنه الخبيث مكدرًا لصفو الحلم الذي طالما انتظرته.. فلماذا لا أسعد وأحتفي بكارنيه نقابة الصحفيين الذي أعاد الحلم مجددًا بعدما حاول سلبه أحدهم؟
عودة للبروفة.. أثناء مشاهدتي العرض المبهر، وجدت نفسي في كل تفاصيله، هؤلاء الشباب يعبرون عنّي ويمثلوني، وحتمًا لست وحدي فكل من شاهدهم شعر بذلك أيضًا، وهذه كانت كلمة السر في نجاحهم، هي إصرارهم أن يعبروا عن جيل كامل من الشباب، جيل كاد أن يودع أحلامه ويودعها في الأدراج المغلقة ويبحث عن الحياة الرتيبة الروتينية ذات المرتب الثابت والعلاوة السنوية والترقيات المحدودة.
في البروفة، سترصد -كمُشاهد- الطريق الطويل الشاق في سبيل البلوغ للحلم، ستتذكر فترات الجفاف الفكري التي يتحول فيها رأسك إلى صحراء جرداء خالية من الأفكار الإبداعية، ثم تغرق في موجات الاكتئاب التي تجعلك تشعر بعدم جدوى ما تقدمه، ثم تصادف من هم على شاكلتك يبثون فيك الروح من جديد وينتشلونك من الغرق في اليأس.
البروفة استطاعت بكل براعة أن تنقل حالة كاملة صادقة مختلفة، تابلوه رائع محكم من النص والموسيقى والإضاءة، وجاء أداء الممثلين تلقائيا صادقا يكلل العرض ويقدمه للجمهور في أبهى صوره.
في منتصف العرض ستشعر أنك أحد أفراد الفرقة، ستحمل معهم عبء المشاهد التي لا يستطيعون ارتجالها، والمسرح الذي يبحثون عنه ليحتضن عرضهم، واختلاف وجهات النظر الذي يتسبب في خلافات مؤقتة بينهم؛ وعندما ينتهي العرض ستجد نفسك سعيدًا كأنك أتممت معهم إنجازهم.
البروفة، ستحيي داخلك بقايا حلم حتمًا قررت أن تتخلى عنه، أو موهبة لم تعطها حقها، سترسل لك الوحي يطاردك وتوقظ ضميرك الذي لا يرضى لك اليأس أو الفشل أو التنازل عن حلمك، ستذكرك بأصدقاء اشتقت لهم، وأماكن تحمل ذكريات لا تنسى، وحلم حتمًا لن يكتمل رضاك عن نفسك سوى بتحقيقه.
عزيزي القارئ، انظر دائمًا إلى البروفة، اقتحم كواليس أي إنجاز لتعرف كلمة السر وراء نجاحه واستمراره، لا تكن من المستكثرين، وكذلك أيضًا لا تكن من آولئك الذين تناسوا حلمهم فنسوا أنفسهم، فرغم كافة الصعوبات سيأتي لك لحظة تشعر فيها برضا عن نفسك؛ حتمًا ستفتقد ذلك الشعور إذا تخليت عن حلمك.
أخيرًا.. كل الشكر والتحية لفرقة "1980 وانت طالع" وأسرة عرض البروفة، كل الشكر لمن شارك في هذا العمل الراقي المُلهم، وأخص بذلك المؤلف محمود جمال والذي لم يأبه سوى بإنتاج نص صادق يعبر عن أبطاله وجمهوره، وكذلك الشكر والتحية والتقدير للمخرج محمد جبر، الذي شارك في هذا العرض ممثلًا ومخرجًا، وكان مسؤولا عن الصورة النهائية العظيمة التي عُرضت للمشاهدين رغم قلة الإمكانيات، فضلا عن دوره الرائع كممثل يحمل إيقاع المسرحية.
أتمنى أن أكتب مقالا يوم ما وأحدثكم عن بروفة حلمي المقبل، سلام الله لكم وعليكم وعلى إنجازتكم.. والأهم على البروفات.. كلمة السر وراء الإنجاز.