وتقف الدكتورة سعاد الصباح قبل عامين بقلب جامعة القاهرة ترتدى روب الأساتذة وتزلزل المكان وتقول «أم الدنيا علمتنى التميز وبتكرمنا على حاجة هى اللى السبب فيها» ثم أضافت «من يريد ويخطط لمصر بالشر والسوء ستبتلعه الأرض ولن يرى أحد أثره»!
نعم.. من أراد مصر بسوء ستبتلعه الأرض.. لم تكن سعاد الصباح أستاذة ومحاضرة جامعية ولا شاعرة كبيرة ومعروفة فقط وإنما هى ابنة الأسرة الحاكمة بالكويت، وكلامها يعكس مشاعر الأسرة وربما كانت بالشعر وبالكتابة ضمير أسرة الصباح كلها! مصر والكويت قصيدة حب طويلة وقديمة.. ما يربطهما أكبر بكثير من أن يؤثر به مراهقة متأخرة أو شيخوخة فى أوانها.. مصر والكويت الامتداد بالمشاعر الذى يهزم الجغرافيا والانسجام إلى حدود الذوبان.. ليس فقط بمقدار ارتباط الثقافة ولا بالحضور الشعبى المصرى بالكويت ولا بالحضور السياحى والاستثمارى الكويتى بمصر.. إنما بكل ذلك غيره!
نعم ذهبت مصر لتحرير الكويت.. وقبلها جاءت الكويت لدعم مصر فى حرب أكتوبر.. جاءت خمس طائرات «هوكر هنتر» من أصل ثمانى تمتلكها الكويت، فضلاً عن مشاركة أخرى بالذخيرة وقطع الغيار بخلاف الدعم الاقتصادى.. وقبلها بسنوات كانت مصر تحمى الكويت ويتدخل جمال عبدالناصر لوقف عبدالكريم قاسم عند طموحه وأوقف سريعاً غزواً مؤكداً كالذى جرى فى تسعينات القرن الماضى.. وقبلها كان عبدالناصر هناك أيضاً يمهد الأرض لاستقلال الكويت وتحولها إلى دولة حديثة، فكان الأطباء والمهندسون والمعلمون والعمال بخبرات وكفاءات فى كل مجال!
عام 1965 يغنى عندليب الغناء العربى بالكويت من شعر وليد جعفر أغنيته الشهيرة «يا هلى»، التى لحنها فنان الكويت عبدالحميد السيد، وكانت بطلب من مسئول كويتى كبير، وإلى الآن يغنون ونغنى مع العندليب «يا هلى يا هلى يكفى ملامى والعتاب.. لا تلومونى ترى قلبى صويب.. علمونى واصدقوا برد الجواب»!
وترسل مصر المخرج المسرحى الدكتور أحمد عبدالحليم ليساهم فى بناء الوجدان الكويتى، وبعدها بسنوات نستضيف فى المحنة مطربى البلد الشقيق.. بلدهم وديارهم.. وقبلها يذهب النجم الكبير عادل إمام يعرض «شاهد ما شافش حاجة» ويحقق نجاحاً باهراً ومتوقعاً، إلا أن إحدى المناطق البدوية لا يتجاوبون مع العرض ولا بضحكة واحدة.. حتى يأتى مشهد «كيس الخيار» وصوت إمام يردد «خياريرارة» وينفجر المسرح بالضحك فيقرر إمام أن يحمل كيس الخيار حتى نهاية المسرحية!
بيننا وبين الكويت الكثير.. هناك ثاروا من أجل سمعة زعيم مصر والعرب جمال عبدالناصر.. وكثيرون لا يعرفون القصة.. فقد كان الإخوان فى منتصف السبعينات ومن خلفهم كتبة السلطة قد فتحوا النار تشويهاً وتلفيقاً ضد عبدالناصر وثورة يوليو انتقاماً وثأراً.. وكثيرون أرادوا إثبات ولائهم للعهد الجديد والتبرع بالتجنى على العهد السابق.. وكان من بين هؤلاء الصحفى جلال الدين الحمامصى، الذى اتهم ناصر باختلاس عشرة ملايين دولار زعم أنه حصل عليها من الملك سعود!
انفجر الموقف الشعبى فى مصر بالغضب.. فكل الاتهامات ممكنة إلا ذمة الرجل المالية، واضطر الرئيس السادات تحت ضغط الغضب إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية تولاها الاقتصادى الأشهر وقتها الدكتور على الجريتلى.. كان وزيراً سابقاً للاقتصاد عام 1957 ورفض بعدها تولى أى منصب وقال إنه يوافق على قبول المهمة لأهميتها ولأنه يعرف نتيجتها!
الجريتلى اعترف أنه تولى بنفسه متابعة كل ورقة وكل رقم وكل خطاب وحركة، كل قرش فى الدفاتر الرسمية حتى أصدرت لجنته تقريرها بزيف الاتهام!! ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.. وهنا موضوعنا الأساسى.. فقد كانت الكويت تحتفل برحيل آخر شركة نفط أجنبية، وكان الرئيس السادات بالصدفة فى زيارة هناك.. واحتفل مجلس الأمة الكويتى بعودة النفط لأصحابه وراحوا يذكرون الزعيم الذى قال إن «بترول العرب يجب أن يكون للعرب»، وكان عبدالناصر بطل الجلسة وقتها.. إلا أن ما حدث خارج مجلس الأمة شىء آخر لم يكن على البال.. فعقب انتهاء المباحثات المصرية الكويتية تقدم أحد وجهاء الكويت (وفق توصيف الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين الذى حضر الموقف) وقال للرئيس السادات بصوت أراده أن يكون مسموعاً للجميع وبعد أن شرح موقفه من عبدالناصر أضاف: «ولكن أن يقال إن جمال عبدالناصر الذى كانت خزائن مصر كلها فى يديه وخزائن العرب إذا شاء قد اختلس عشرة ملايين دولار فهذا عار على الأمة العربية كلها التى كان جمال عبدالناصر شئنا أم أبينا رمزاً لها فى العالم كله وإننى أطلب من سيادتك أن تقول لنا أى مبلغ ترون أنه فى ذمة جمال عبدالناصر للخزانة المصرية وسوف ندعو الشعب الكويتى للتبرع به وتسديده عنه وسيجمع الشعب الكويتى أى مبلغ فى أقل من 24 ساعة»!
الصدفة وحدها تقف وراء غناء مطربة الكويت «نوال» لمصر قبل وصلة البذاءة للنائبة صفاء صديقة أردوغان بيومين فى الأوبرا لتغنى «يا حبيبتى يا مصر»، وهى نفسها التى غنت لمصر قبل فترة أوبريت «مصر قريبة» بينما يظل ابن الكويت ناصر الخرافى رجل الأعمال الوحيد الذى يحصل رغم رحيله منذ سنوات على لقب «المستثمر الأول» فى مصر.. إذ إن مجموعته تستثمر 38 مليار جنيه، توزعت على ما يقارب 37 مشروعاً صناعياً وفر فيها فرص عمل لأكثر من 290 ألف مصرى!
سيدات الكويت كثيرات فى العمل العام والثقافة والأدب بما تتضاءل أمامهن الصغيرات عقلاً وحجماً ومكانة إلا أن سعاد الصباح يكون لها الختام بما كتبته من قصائد فى مصر وزعيمها، الذى قالت عنه فى إحداها بعنوان «من امرأة ناصرية إلى جمال عبدالناصر»:
«يا ناصر البعيد قد أوجعنا الغياب
نمد أيدينا إليك كلما حاصرنا الصقيع والضباب
نبحث عن عينيك فى الليل ولا نمسك إلا الوهم والسراب
يا ناصر العظيم أين أنت؟ أين أنت؟
بعدك لا زرع ولا ضرع ولا سحاب
بعدك لا شعر ولا نثر ولا فكر ولا كتاب
بعدك نام السيف فى مرابه واستنسر الذباب»!
ونقول: ما بيننا مروراً بـ30 يونيو وحتى اليوم أكبر من كل تفاهة ومن كل تافه.. ومن أى تفاهة ومن أى تافه.. أكبر جداً جداً!