قلَّما يكتب الصحفى العنوان قبل المقال، إلا فى حالات نادرة تكون فيها الفكرة واضحة متبلورة فى كلمتين أو ثلاث. وهنا تتبلور الفكرة والمعضلة والمشكلة، وربما الحل فى كلمتين لا ثالث لهما: الفراغ و«حمو بيكا».
فالفراغ الثقافى والسياسى والاجتماعى والاقتصادى والفكرى والنفسى والعصبى لا بد من ملئه. فإن جاء تاجر دين بعِدة النصب كاملة متكاملة حيث صراخ وزعيق، وتهديد ووعيد، وتلويح بأن الكل خطّاء والمجتمع ما هو إلا عورات يجب اجتثاثها أو احتقارها أو دفنها حية، وبضعة تشبيهات واستعارات ومجازات تمزج الجنس بالدين، والمتعة بالحرمانية، والحور العين بنساء الأرض من الشياطين، ملأ الفراغ المنشود.
وإن جاءت دولة متمثلة فى نظام سياسى وهيكل اقتصادى وأعمدة ثقافية وفنية وفكرية وعلمية بكامل هيئتها، حيث حياة سياسية صحية، ومعيشة وتطور ونمو اقتصادى معقول، وأعمدة ثقافية معتبرة تنتج وتطور وتشجع وتدرب على العلوم والمعارف والآداب والفنون والأخلاق والسلوك التى يصب جميعها فى خانة استنارة الذهن واستضاءة الفكر واستمالة القلوب والعقول صوب حضارة إنسانية تستحق أن تحجز لنفسها خانة فى تاريخ الأمم، ملأت الفراغ المنشود.
وإن جاء «حمو بيكا» و«مجدى شطة»، ومن قبلهما «أوكا» و«أورتيجا» ومن قبلهما شعبان عبدالرحيم وعبدالباسط حمودة، ومن قبلهما أحمد عدوية وحسن الأسمر وهلم جرا، فقدموا منتجاً ما يصنفونه موسيقى وغناءً، أو فناً وثقافة، أو حتى موضة وصرعة، ملأوا الفراغ المنشود. ومن مناشدات لقائمين على أمر «الطرب الأصيل» و«الفن الجميل» بإيقاف «حمو بيكا»، لسخريات شعب الفيس بوك الأبىّ العتيد مما وصل إليه الحال وتطور إليه المآل من سفه وهزل إلى آخر مفردات التسفيه والتحقير، لإقبال منقطع النظير من أجيال بأكملها ولدت من رحم ثقافة الـ«توك توك» الجامح غير الخاضع لضبط قانونى أو ربط سلوكى أو رادع أخلاقى، يتعجب البعض من هذا البزوغ الغريب لـ«حمو بيكا» وأبناء عمومته من أبناء الأجيال التى خرجت إلى الحياة فى غفلة من الرعاية أو الحماية.
حماية الذوق العام لا تتحقق بإدانة وتنديد من أمراء الغناء العربى، أو بمطاردات وتضييقات من الشرطة والأمن العام، وبالطبع بلجان برلمانية تنعقد أو تعهدات نيابية تتخذ بأن طلبات الإحاطة فى شأن الابتذال والانحطاط وإفساد الذوق العام سيُنظر فيها بكل قوة وسيُحسم مآلها بكل بأس.
وبئس العلاج المنع والحجب، أو الشجب والتنديد، أو التهديد والوعيد بالإيقاف والإحالة إلى التحقيق. وبئست المواجهة هى تلك التى تعتمد على ما أكل عليه الزمان وشرب من إجراءات وما عفا عليه المكان من تحركات وأفكار، لا سيما أن أغلب الأطراف الضالعة فى معركة مواجهة «حمو» ومساجلة تطويق «شطة» هى نفسها الأطراف التى كان يفترض منها أن تسهم فى ملء الفراغ الثقافى المشار إليه والخواء الفكرى السالف ذكره.
ويلوم البعض على الإعلام بذراعيه التقليدى من صحف وتليفزيون ومواقع خبرية، والجديد من منصات التواصل الاجتماعى، اهتمامه وإقباله على الخوض والغوص فى ملف «حمو بيكا». لكن هل الامتناع عن الخوض والتوقف عن الغوص سيلغيان واقعاً أليماً مفاده خروج جيلين على الأقل فى غفلة من الزمن، حيث لا تعليم أو تربية أو تنشئة أو قواعد آدمية بديهية يجب توافرها قبل المحاسبة؟!
ومن يحاسب مَن على هذه الملايين من الشباب والشابات والمراهقين والمراهقات التى تفرض وجودها فى الشارع بمظهر ومسلك وطريقة كلام وأسلوب تصرف ومنظومة ثقافية كاملة متكاملة، هى نتاج سنوات من هجرة عشوائية من الريف إلى المدينة بحثاً عن الرزق، وتمدد غير محسوب لدوائر العشوائيات التى لم تعد تكتفى بإحاطة أحياء الطبقات العليات والمتوسطة، بل غزتها واحتلتها بفرض ثقافتها الناجمة عن أغلبية عددية طاغية؟
أليست هذه هى الأجيال التى فتحت عينيها على «اللمبى» ومخارج ألفاظه الفاسدة وبلطجته الفكرية والسلوكية الواضحة فى قالب كوميدى محبب إلى كثيرين؟ وأليست هذه هى الأجيال التى ترعرعت على أفلام ومسلسلات الأستاذ محمد رمضان و«جدعنته» الشعبية حتى تحول إلى أيقونة؟ وفى المقابل ماذا فعلت بقية الأطراف المتضررة لتنافس أولئك الذين ملأوا الخانات واحتلوا الفراغات حتى يخرجوا علينا اليوم ليطبقوا أقصى العقوبات على «حمو بيكا» وأقرانه؟ ولو افترضنا وتم إعدام «حمو بيكا» فى ميدان عام، هل يضمن ذلك أنه سيكون آخر «حمو»؟ أم سنجد الملايين من الأجيال المولودة فى الوقت الضائع تخرج رافعة شعار «كلنا حمو بيكا»؟!