فرح السيد محمد ناصر بمقالى السابق عن الإعلام وما حدث له.. فرح لأننى حذرت، وبشدة، من أن إعلام الصوت الواحد لدينا يدفع الناس دفعاً لمشاهدته هو وأمثاله. وبعد أن سبَّنى سباً شخصياً رخيصاً، وبعد ما سب الدولة والرئيس والقضاء والمجتمع والناس، قال بكل فخر إنه وأمثاله هم الأحرار والثوار.. هم أصحاب الأصوات المعارضة. تخيل المسكين أن ما يفعله هو الحرية، وأن ما يقوله هو الحق، وأنه يستطيع هو وزملاؤه فى القنوات المشابهة ما لم يستطعه أحد. ظن، وصدَّق ظنونه، بأنه حر، وأننا لسنا كذلك.. اعتبر أن ما كتبته أنا فى الأسبوع الماضى هو انتصار له ولأشباهه من أصحاب المهمات السهلة، فما أسهل خيانة الوطن، وما أحلى الثمن وما أبخسه. ظن أننى أشهد بنجاحه، بينما أنا أحذر من فيروس مرضى خطير، وأدق ناقوس الحذر من سم قاتل يعبث بالعقول.. وشتان بين الظن والحقيقة.
قال بكل حماس: نحن المعارضة، ونحن أصحاب السقف العالى، وليس لدينا محاذير. وقال بالطبع إننا هنا فى مصر لسنا كذلك. الفرق يا مسكين كبير جداً.. إذا كنت أنا وغيرى نكتب بحرية فى صحف مصرية، ولا يصادَر لنا مقال، ولا تُمنع لنا كلمات، فنحن الأحرار ولست أنت.. إذا كنت وغيرى قادرين -حتى فى ظروف الإعلام هذه الأيام- أن ننقد ما يحدث بحرية وجرأة، بل و«حدّة»، وأن ندين المسئولين عما حدث، وعلى صفحات الصحف المصرية، فنحن الأحرار ولست أنت.. نحن هنا على أرض مصر نكتب فى صحف مصرية، ونتحدث بكل ذلك فى إعلام مصرى.. نحن هنا نتكلم ونعارض ونختلف ونخالف ونحذر بكل حرية من مغبة الأمور.. نحن هنا فى مصر، على أرضها وبين ناسها وعلى أوراق صحفها.. الفرق كبير يا مسكين، فأنا أسير فى الشوارع وبين الناس، يحيطوننى بكل الحب والود والاحترام، يقدِّرون ما أكتب، ويهنئوننى على مقالاتى.. يطلقون علىَّ أجمل وصف يمكن لمصرى أن يحصل عليه: «يا ست يا وطنية».. أعيش بينهم.. أشعر معهم بالأمان والطمأنينة.. فأنا أحب الوطن، وأعارض من أجل رفعته وكماله.. أعارض لأننى لا أريد أن أرى نقيصة تلطخ الثوب.. نحن، المعارضين من هنا، من فوق أرضها، نعارض حباً، ونهيم شوقاً إلى وطن زاهٍ حر قوى، وهو ما سوف يحدث بإذن الله، رغم العثرات. أما سيادتك وزملاؤك المنتشرون فى قطر وتركيا، فتعملون كالمرتزقة العبيد لدى حكومات خرقاء تحركها أصابع الغرب والصهاينة.. تحشو أفواهكم بالدولار والريال لتناصبوا بلدكم العداء. وهى مهنة سهلة جداً، لا تحتاج لمقومات أكثر من ضمير غائب ولسان سليط، وبعد ذلك تظن بأنك أنت الحر؟!
ومع ذلك أدعوك بإخلاص إلى أن تحاول ممارسة الحرية.. تعال.. تعال إلى مصر.. اهبط فى مطار القاهرة، وسر على بركة الله فى الشوارع، وحاول أن تجلس على مقهى، حتى لو كان يعرض برنامجك على شاشته، وحاول أن تتحمل رد فعل الناس.. لا تنخدع فى من يشاهدونك على الشاشة، لأنهم لو شاهدوك فى الحقيقة ستكون كارثة.. حاول أن تغامر.. تشجع وانزل إلى أرض مصر، وقل ما تقوله الآن وسط ناسها وعلى أراضيها.. هذه هى الحرية فعلاً.. ولكنك هناك بعيداً على أرض غريبة تجلس فى التكييف وتحت الإضاءة، حيث السباب سهل.. تقبض وتتحدث حسب هواء من اشتروك. يحركونك كما يريدون.. يضعون الكلمات على لسانك بالأوامر، وإذا تخاذلت يوماً كانت نهايتك.. لذلك ستظل حبيساً فى مهمتك المشينة هناك، بينما نحن هنا -ورغم الظرف الصعبة- نستمتع ببلدنا.. نسير على شاطئ النيل.. تحت شمسها، فوق ترابها، نأكل من خيرها، حتى لو كان قليلاً، نلقى النكات على المسئولين وعلى أنفسنا، ونتبادلها ونضحك من القلب.. نشكو همومنا لبعضنا البعض، ونثور ونعترض، ثم نقول بكل الحب: «بس خير بإذن الله».. تعال يا مسكين -إن استطعت- إلى أرض مصر، واسأل البسطاء المطحونين: كيف الأحوال؟ ستسمع جملة عبقرية يقولها كل أولاد البلد: «الحمد لله، فى نعمة والله». هؤلاء هم المصريون حتى لو كانوا يشاهدونك من باب الملل، ومن باب «الفرجة اللى ببلاش»، لأنهم بعد أن يفرغوا من سلاطة لسانك، سيحولون المحطة قائلين: «بس راجل خاين».. هكذا بكل بساطة.
فى السبعينات ذهب فنان مصرى إلى بلد عربى يناصب السادات العداء، وعمل لديهم فى الإذاعة، وأخذ يسب مصر ويشكك فيها، ويسب السادات، ويقبض من حاكم الدولة «الشجيجة» بالدولار والدينار، وظل هناك، وانتهت المهمة، لكنه لم يستطع أن يعود، بل لم يجرؤ على مواجهة الناس حتى لو كانوا معارضين للسادات نفسه.. انتقل إلى دولة «شجيجة» أخرى، وظل يقبض ويسب، إلى أن مات فى المنفى وحيداً ملوَّثاً.. وهذا مصير كل خائن.
أما أنا، وعندما يأتينى الأجل، فسوف يشيعنى المئات من المحبين إلى مثواى الأخير، وستنهمر كلمات الرثاء خلفى.. سيقولون، حتى لو اختلفوا معى: عاشت محبة للوطن، وماتت وقلبها معلق بمستقبله وأرضه وناسه.. صدِّقنى، الفرق كبير يا مسكين.