(1)
بعد أعوام من وفاة عبدالناصر، نظم اتحاد طلاب الجمهورية معسكراً من عدة أفواج خلال إجازة الصيف شارك فيه طلاب وطالبات من كل الجامعات المصرية، وكنت آنذاك طالباً فى جامعة الإسكندرية وشاركت فى أحد هذه الأفواج التى خصصها اتحاد الطلاب للعمل فى تنمية البيئة بقرية «بنى مر» فى محافظة أسيوط، وهى القرية التى تنتمى لها أسرة الزعيم الراحل. وخلال أسبوعين قضيناهما هناك لم نشهد أية امتيازات من أى نوع منحها عبدالناصر لقريته أو حتى منازل أسرته، بل على العكس من ذلك كانت منازل أقارب عبدالناصر تنافس بعضها بعضاً فى الفقر والبدائية وتشارك الغالبية العظمى من مساكن القرية فى التعبير الصارخ عن تواضع الحال، وكان معظمنا يتعجبون من هذه الظاهرة وبعضهم لا يصدق أن هذه منازل أشقاء وأقارب الرجل الذى حكم مصر ثمانية عشر عاماً، ولم يمنح أسرته خلالها أية امتيازات من أى نوع.
(2)
فى مركز الباجور بمحافظة المنوفية، ظهر الأستاذ كمال الشاذلى فى عهد جمال عبدالناصر، ثم تمكن من الالتحاق بكل التنظيمات السياسية الشمولية والحزبية إلى أن صار أحد أقطاب الحزب الوطنى الديمقراطى، وواحداً من حاملى الحقائب الوزارية والعقل المفكر للهيئة البرلمانية لحزب الحكومة، ومايسترو مجلسى الشعب والشورى الذى يعزف وراءه النواب الحكوميون والحزبيون والمستقلون والمؤيدون والمعارضون والمعتدلون والراديكاليون والشرفاء والفاسدون. هذا الوزير المحترم كان يجيد لغة العصر فلم يلتزم كعبدالناصر بتوزيع الخدمات وفق خطة الدولة، ولكنه صنع من دائرته الانتخابية مصدراً رئيسياً لكل الوظائف العليا والوسطى فى مصر كلها. يقولون إن قرى كاملة فى الباجور يعمل كل أو معظم شبابها ورجالها فى وظائف القضاة ووكلاء النيابة وضباط الشرطة وغيرها من الوظائف التى تحتاج لتدخل سلطوى قوى لتمكين من يتقدم إليها، ويقال أيضاً إن دائرة الشاذلى والمحافظة كلها نالت من الخدمات الحكومية ما يفوق سائر المحافظات الأخرى.
(3)
نفس هذه الظاهرة تتكرر فى دوائر كثيرة أخرى. فى الشرقية -مثلاً- وصل أحد السادة إلى منصب قيادى فى هيئة السكة الحديد، وتمكن من تعيين عدد ضخم من شباب دائرته فى مناصب مختلفة تتفق مع مؤهلاتهم أو حتى لا تتفق، المهم أنهم صاروا موظفين وعمالاً فى هذه الهيئة بفضل هذا القيادى الكبير الذى صار هو الآخر نائباً دائماً فى برلمانات الحزب الوطنى لدورات متتالية بأصوات من أحسن إليهم، فضلاً عن التدخل الحكومى لصالحه فى الانتخابات رغم أنه لم يكن فى حاجة إليه.
ولو كنت حضرتك من مستخدمى الطريق الزراعى بين القاهرة والإسكندرية ستجد عدداً من محطات السكة الحديد لا يتوقف عندها أى نوع من القطارات، وعدداً آخر من الكبارى العلوية لا يستخدمها أحد، وكل هذه المنشآت كانت تتم بتدخل السادة نواب هذه المناطق الذين يمارسون ضغوطاً على الوزراء يحصلون بمقتضاها على موافقات تسمح بتنفيذ هذه المشروعات الوهمية التى تدعم النائب الذى نفذها وتمنحه الوجاهة بين السادة الناخبين وتهدر فى نفس الوقت أموالاً طائلة خارج خطة أو موازنة الدولة.