فى جملة سريعة قالت لى الزميلة هدى رشوان، رئيس تحرير برنامج «السفيرة عزيزة»، الذى يُذاع على قناة «Dmc»: «أود منكِ الظهور كضيفة مع المذيعة رضوى».. والحقيقة أننى لا أحفظ الأسماء جيداً، وربما شاهدتُها سريعاً على الشاشة ولم ألحَظ سوى أنها محجبة ورقيقة وشديدة اليقظة.
فى غرفة المكياج، ألقيت التحية عليها، ثم جلست، شابة صغيرة مرحة ودود، وإذا بوالدتها تقرأ عليها «سكريبت الحلقة».. هنا فقط تنبهت إلى أن «رضوى» كفيفة.. شعرت بالخجل من نفسى، لأننى لم أفهم إشارة «هدى»، وأحسستُ بالارتباك فكيف سأتحدث معها!.. ثم جاءت الفقرة التى كانت تشاركها تقديمها الإعلامية الراقية جاسمين طه.. ولأننى عملت بتقديم وإعداد البرامج أعرف جيداً كيف تُعطى المساحة لغيرك ليكون هو «النجم» ويتسيَّد الشاشة، وكانت «جاسمين» -باتفاق مسبق أو- لا تمنح «رضوى» فرصة إدارة الحوار وتتراجع هى.. الغريب أن ذاكرة «رضوى» وكأنها أخذت «نسخة مطبوعة» مما قرأته الأم على مسامعها لمرة واحدة، وكانت تتحرك باتجاه الكاميرا المخصصة لها لتفتح الفقرة أو تنهيها وكأنها ترى، وتدير وجهها باتجاه المتحدث بتمييز الأصوات!.
ورغم أن «السفيرة عزيزة» برنامج اجتماعى، فإننا فوجئنا بقطع الإرسال والانتقال لعرض مؤتمر صحفى للرئيس عبدالفتاح السيسى مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهو ما فرض علينا التحول للتعقيب على المؤتمر الصحفى لتتحول «رضوى» بمرونة شديدة للحديث فى السياسة.. وهو أبعد ما يكون عن تخصصها، لكنه «الوعى» والنضج، فـ«جاسمين» مذيعة محترفة وتقدم وتحضر معظم لقاءات الرئيس وأنا كاتبة سياسية.. لكنه «التحدى» الذى يجعل من الإنسان بطلاً دون أن يشعر بأنه يفعل أمراً خارقاً للعادة!.
رضوى محمود فقدت بصرها بعد ولادتها بأيام بسبب خطأ طبى، والتحقت بمدرسة خاصة بالمكفوفين وتعلمت القراءة والكتابة على طريقة «برايل»، حتى وصلت للثانوية العامة، وحصلت على مجموع 98%، وكانت من الأوائل على الثانوية المصرية. واختارت الدراسة فى كلية الإعلام، وعملت «كول سنتر» فى إحدى الشركات، ثم التحقت بالعمل فى «راديو 9090».. وأخيراً حققت حلمها لتكون أول مذيعة كفيفة فى العالم العربى.. وتُسقط الجدار المسمى بـ«الإعاقة». بعدها جاءت رحمة خالد، وهى من أشهر البنات المثابرات لتحقيق أحلامهن، وحققت إنجازات كثيرة رغم أن المجتمع والناس يصنفونها من ذوى الاحتياجات الخاصة.. فهى تعانى من «متلازمة داون»، لكنها قررت أن تلعب سباحة وتنس وسلة، وأحرزت بطولات وميداليات كثيرة جداً، من ضمنها 7 «دولية»، ومثَّلت مصر فى عدة بلدان، وهى بطلة السباحة فى مصر من 2008 إلى الآن، وتم اختيارها شخصية ملهمة ومؤثرة فى 2015.. لكن الطفلة التى كبرت وكانت ترفض أن لديها «إعاقة» ظلت تحلم بأن تعمل بالإعلام.
وكانت «رحمة» تقول: (إن الإعلام هو أقصر طريق يوصل وجهة نظر للناس، وهى لو ظهرت كإعلامية أو كواحدة بتقول رأيها ده هيغير وجهة نظرهم تجاه متلازمة داون، بدل ما أول ما يبصوا يقولوا: «يا حرام»).
وفى أول فبراير 2018، بدأت أسرتها تتواصل مع قناة «DMC»، وبدأت «رحمة» بالفعل التدريب مع الإعلامى المسئول عن تدريب المذيعين، وهو ماهر مصطفى، لمدة شهر ونصف حتى وافته المنية، وبالطبع توقف تدريب «رحمة»، ثم ظهرت «رحمة» فى لقاء مع الإعلامى رامى رضوان فى برنامج «8 الصبح»، وقال لها: «يا رحمة انتى عايزة إيه؟»، قالت إنها عايزة تبقى مذيعة، فقال لها: (خلاص أوعدك تبقى مذيعة معانا فى برنامج «8 الصبح»). وبالفعل ظهرت «رحمة» على شاشة «Dmc» واثقة من نفسها، مسيطرة على أدواتها -رغم بساطتها- تتقن السيطرة على «لغة الجسد»، وانفردت بتقديم حلقتين مع النجمة الكبيرة «يسرا» والنجم الكبير محمد هنيدى.. وهو ما يؤكد أن خلفها جهوداً جبارة وترتيبات ضخمة ودقيقة تقوم بها إدارة القناة لإنجاح التجربة.
ربما تكون «رحمة» هى أول مذيعة على مستوى العالم مصابة بمتلازمة داون، لكنها قهرت «الصورة الذهنية» التى تشكلت عن هؤلاء من متحدى الإعاقة وثابرت فى مجال الرياضة، وتواصلت مع العالم الخارجى لتكتسب خبرات ومهارات التواصل، وتقدم تجربة فريدة من نوعها فى مجال الإعلام.
حين كان الرئيس عبدالفتاح السيسى يغالب دموعه النبيلة، خلال احتفالية «قادرون باختلاف» التى نظمها الاتحاد الرياضى المصرى للإعاقات الذهنية، بمناسبة اليوم العالمى لذوى الإعاقة، بالمشاركة مع وزارتَى الشباب والرياضة والتضامن الاجتماعى، كنت أَلمح من بين دموعه إحساساً بالفخر بأنه استطاع أن يخلق مجتمعاً حاضناً لذوى الاحتياجات الخاصة، مجتمعاً يكسر حاجز الرهبة والخوف من الاندماج.
لقد كرَّم الرئيس المذيعة «رضوى»، فى منتدى شباب العالم، على إدارتها بكفاءة لجلسة بعنوان «تقليص الفجوة بين الجنسين فى سوق العمل».. وأحسب أن أفضل تكريم للقائد الذى غيَّر مناخ القهر الذى كان يسجن ذوى الاحتياجات الخاصة، هو قيام طفلة بالنداء على الرئيس خلال إلقاء كلمته فى الاحتفالية، قائلة: «بابا السيسى»، ليرد الرئيس: «يا حبيبة بابا السيسى» وهو ما جعل الأطفال من ذوى الإعاقة يهتفون: «بنحبك يا ريس».