قامت القيامة حول موضوع عقيم، وهو اضطهاد اليهود فى مصر، وأنهم مصريون لحماً ودماً، فقط يدينون باليهودية، وأنهم قد لوحقوا وطردوا من وطنهم، و«هُجروا قسراً» من ديارهم، وأُحرقت مؤسساتهم ومصانعهم وذاقوا صنوف الويل، حتى أوشكوا على الفناء من أرض مصر...!! قيل هذا، ولأننا فقدنا كيفية الحوار الهادئ ورد الرأى بالرأى والحجة بالحجة، فقد تحول النقاش إلى سباب وشتائم واتهام سهل وسريع بالخيانة والعمالة. ولأن التاريخ المأسوف على شبابه بعيد جداً عن عقول المتشابكين، رغم وجود الكتب، فنحن إذن فى حوار الطرشان. والمسألة سهلة جداً، فالتاريخ يقول:
أولاً: بداية من عام 1945 وحتى عام 1949 اجتاحت البلاد سلسلة من موجات القتل والاغتيال، بدأت بالدكتور أحمد ماهر فى فبراير 1945 فى البرلمان، وكان القاتل إخوانياً، ثم المستشار الخازندار عام 1948، وسليم زكى، حكمدار القاهرة. ومنذ عام 1946 تعددت الحوادث، وفى عام 1947 فى شهر مايو وُضعت قنبلة شديدة الانفجار فى دار سينما مترو، وانفجرت وأودت بحياة خمسة من المواطنين وأصابت الكثيرين، وتكررت كذلك فى الإسكندرية ضد الجنود الإنجليز، وقام الإخوان بنسف منزل النحاس باشا بجاردن سيتى بعربة مفخخة. وفى يوليو 1948 أُلقيت القنابل على محل شيكوريل ومحل أوريكو بشارع فؤاد (26 يوليو)، وانفجرت قنبلة أخرى فى محل عدس بشارع عماد الدين، وفى أغسطس وقع انفجاران شديدان أمام محل بنزايون بميدان مصطفى كامل، ومحال جاتينيو بشارع محمد فريد، وانفجار آخر بالمعادى فى مبنى شركة أراضى المعادى، وكان الإخوان وراء كل هذه الاغتيالات والانفجارات، خاصة بعد عودتهم من حرب فلسطين وقد تدربوا على حرب العصابات والتفجير وسفك الدماء.
والغريب أن الدولة المصرية أيامها رأت أن أغلب المحلات التى تم تفجيرها هى محال يهودية، فوضعت عليها حراسة مشددة، حماية لها من إعادة الاعتداء. ورغم ذلك، وفى سبتمبر من نفس العام، حدث انفجار هائل فى حارة اليهود أودى بحياة عشرين قتيلاً وأدى إلى إصابة 61 شخصاً وانهيار أربعة منازل، وبعدها فى نوفمبر أُطلقت النيران على النحاس باشا أثناء دخوله إلى منزله، وفى نفس الشهر حدث انفجار مروع فى مبنى شركة الإعلانات الشرقية أدى إلى تخريب المبنى وإصابة بعض المبانى القريبة، وفى 15 من نفس الشهر ضُبطت سيارة جيب فى حى الوايلى مملوءة بالمواد الناسفة والمفرقعات والأسلحة والذخائر، وعُرفت بقضية «العربة الجيب». وانتهت هذه السلسلة بحل جماعة الإخوان ثم اغتيال النقراشى باشا فى 28 ديسمبر من عام 1948. إذن كان الحرق والتدمير والتفجير من صنع الإخوان المسلمين، حتى انفجار حى اليهود نفسه كان من تدبيرهم، وفى قول آخر أنه كان من بينهم بعض الصهاينة الإرهابيين أعضاء جماعة «شتيرن» الإرهابية ودبروا هذه الهجمات لإجبار العائلات اليهودية المصرية على الهجرة إلى إسرائيل، نظراً لرفضهم الهجرة بالدعوة الحسنة والترغيب.
ثانياً: مسألة التأميم والمصادرة، فيقول التاريخ إنه فى 26 يوليو 1956، وبعد تأميم القنال بساعات، جمّدت إنجلترا وفرنسا أرصدة مصر وودائعها لديها، وأرسلت تعليمات لعملائها وللبنوك الأجنبية فى مصر بعدم مسايرة الاقتصاد المصرى، فامتنعت البنوك عن تمويل محصول القطن وعن التمويل الصناعى والتجارى، لشل حركة المعاملات التجارية وهو ما عُرف، ونحن صغار، بـ«الحصار الاقتصادى». لذلك فى نوفمبر 1956، بعد العدوان الثلاثى على مصر، صدرت قرارات فرض الحراسة على مؤسسات وأموال الرعايا الإنجليز والفرنسيين، وبلغ عدد المؤسسات ألفاً وخمسمائة مؤسسة وُضعت كلها تحت الحراسة، منها شركات تأمين وبترول وتعدين وخلافه. وفى 14 يناير 1957 صدر قانون تمصير البنوك، وكانت هذه البنوك تتحكم فى نحو 158 مليون جنيه من ودائع المصريين، مع أن هذه البنوك لا يزيد رأس مالها المستثمر فى مصر عن 2 مليون جنيه، وفى نفس اليوم صدر قانون تمصير شركات التأمين، وكان فى مصر وقتها 135 شركة تأمين، منها 123 شركة غير مصرية، ثم تم تمصير تسعة بنوك والوكالات الأجنبية. إذن كانت قرارات التمصير والتأميم موجهة بالأساس للإنجليز والفرنسيين، وبالطبع كان من بين هذه الشركات، خاصة شركات التأمين، شركات يهودية يمتلكها يهود مصريون، لهذا لم يكن التأميم موجهاً لليهود بشكل خاص، ولم نسمع ونحن صغار حتى بعد حرب 1956 -رغم أن إسرائيل هى التى بدأت علينا الحرب- بأنه قد تم طرد يهود مصر قسراً وعدواناً، ولم يسجل التاريخ واقعة واحدة، وأنا شخصاً لست من دراويش عبدالناصر الذين انبروا يطلقون الحنجورى دون حجة ولا واقعة تاريخية، ولكن التاريخ يؤكد أن عبدالناصر لم يتخذ قراراً خاصاً بممتلكات اليهود بغرض الاضطهاد، ولكن كان التمصير على كل الجنسيات الأجنبية بشكل عام بعد محاولاتهم فرض حصار اقتصادى على مصر بعد تأميم القنال.
ولست هنا بصدد تقييم هذه القرارات، ولكنى أقر واقعة تاريخية.. وإذا كان بعض الصهاينة يروجون هذا الأمر ليكسبوا تعاطف البعض عندنا ليطالبوا بتعويضات فأنا شخصياً أول من يوافق، بشرط أن تكون المعاملة بالمثل، ولنأخذ أولاً تعويضاً عن استغلال سيناء وخاماتها الطبيعية لمدة ست سنوات، ولنأخذ تعويضاً عن شبابنا الذين دُفنوا أحياء فى 1967، وتعويضاً عن مدن السويس وبورسعيد والإسماعيلية التى هُدمت وهاجر أهلها إلى أنحاء البلاد قسرياً خوفاً من الهلاك.. وكذلك تعويض للفلسطينيين عن كل منزل وكل حقل من حقول الزيتون وعن كل طفل وامرأة وشاب وشيخ قُتلوا منذ عام 1947 وحتى يومنا هذا، ولتكن حادثة «دير ياسين» ماثلة فى الأذهان، لأنها مثال يدرس لما يسمى «التهجير القسرى» بعد القتل والسحل وشق البطون والحرق والذى منه. التاريخ دائماً يقول الحقيقة، دعونا نفتح الكتب لنقرأ قبل أن نشن الحروب الكلامية ونطلق السباب والاتهامات التى تجعل اليهود يشاهدوننا الآن ويضحكون بعد أن نجحوا فى استمالة البعض بالمسكنة والنحنحة والكذب وادعاء الظلم البيِّن وهم خبراء محنكون فى هذا الأمر يمارسونه على مختلف دول العالم.