«لمة العيلة».. حضن مصر المهجور
صورة تعبيرية
«وحشتنى لمة العيلة».. يقولها الواحد لنفسه أو لغيره بين حين وآخر، ثم يستسلم لتيار حياة عصرية ميتة، بلا قلب ولا ملامح، وإذا به يكتشف -بعد سنوات من الانقطاع عن جذوره وعائلته- أن مجرد الإحساس بالوحشة إلى «حضن العائلة» لم يعد له وجود فى وجدانه.. أو على الأكثر، تحول إلى «ندبة» تشير إلى جرح قديم لم يعد يسبب ألماً ولا يثير غير ذكريات باهتة.
إنه حال الغالبية العظمى من البشر فى أرجاء المعمورة، خصوصاً هؤلاء الذين عاشوا طفولتهم ومطالع الصبا والشباب بين عائلات ممتدة، ثم حملتهم الأقدار للعمل والإقامة فى المدن والعواصم، ومع اللهاث والدوران المستمر والمقبض فى دوامة هذه الحياة العصرية التى نعيشها الآن، ومع «وهم» الاكتفاء بالأسرة الصغيرة، تآكل التواصل مع الجذور حتى انفصل الفرع عن أصله، وتحول الملايين المكتفون بدفء أسرهم الصغيرة إلى كائنات منبتة «لا أرضاً قطعت ولا ظهوراً أبقت».
عالم مستقبليات أمريكى تنبأ قبل ربع قرن بالتفسخ الأخلاقى للحياة العصرية بسبب اندثار نظام العائلة لصالح «البيت الإلكترونى»
الأكثر من ذلك أن الأجيال الجديدة التى ولدت فى أسر صغيرة، يندر جداً الآن أن تجد فيهم من يعرف «عائلته الممتدة».. وبإمكان كل منا أن يختبر صحة هذه الملاحظة بسؤال كل أبناء معارفه عن أصولهم العائلية، وعما إذا كانوا على تواصل دورى أو غير دورى مع أحد من أقاربهم، والمؤكد أن حصيلة الأسئلة ستكون مفجعة إلى حد كبير.. فالملايين من أبنائنا ولدوا وعاشوا وتعلموا فى زمن «ثورة تكنولوجيا الاتصال» التى تحول معها العالم بكل ما فيه من بشر وحجر وكائنات إلى مجرد عالم افتراضى كئيب. بإمكان كل فرد فيه أن يتواصل عبر شاشة كمبيوتر أو تليفون محمول مع من يريد فى أى مكان وزمان، وهو قابع فى حجرته أو منكفئ على مكتبه مثل «ذئب منفرد» تنهشه مشاعر الوحدة والاغتراب، فى عالم أصبحت فيه أقدس المشاعر مجرد ومضات إلكترونية تنطفئ عادة بعد ثانية من اشتعالها.
وقبل أكثر من ربع قرن، كان عالم المستقبليات الأمريكى الشهير «ألفين توفلر» قد انتبه إلى أن المجتمع الإنسانى يسير بخطى متسارعة وعاصفة نحو ما أطلق عليه «البيت الإلكترونى».. وهو بيت شديد الصغر لا ينتمى فيه الإنسان إلا إلى نفسه، وخلال العقود الأخيرة من عمره الممتد ظل «توفلر» ينبه إلى أن مجتمع تكنولوجيا الاتصال والمعلومات «سيكون فى أشد الحاجة إلى أفراد يهتمون بكبار السن، وإلى أفراد رحماء فيما بينهم.. وإلى أفراد يتمتعون بمهارات وجدانية وعاطفية».. وعندما رحل «توفلر» عام 2016، كانت كل نبوءاته قد تحققت وهو على قيد الحياة، خصوصاً نبوءة «التفسخ الأخلاقى للحياة العصرية التى نعيشها».. ونبوءة «الملايين من كبار السن الذين تحولوا -مع اندثار العائلات الممتدة- إلى عالة على أبنائهم ومجتمعاتهم»!.
الانقطاع عن الجذور العائلية وراء شيوع مظاهر الأنانية والوحدة والاغتراب والجرائم الأسرية وانعدام الإحساس بالأمان
كيف صحونا إذن على هذه الكارثة؟.. وكيف انتقلت إلينا ثقافة تخلى الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم؟.. وكيف -ونحن الشرقيين العاطفيين كما يقال- رضينا بمهانة انتشار دور المسنين التى تستقبل الآباء والأمهات للإقامة فيها حتى يتوفاهم الله.. بدلاً من أن يعيشوا مع أبنائهم وأحفادهم حتى آخر لحظة من أعمارهم؟!
فى عام 1998 صدر كتاب بعنوان «صوت آسيا».. وهو «عبارة عن حوار ملهم أنتجته اللقاءات والرسائل المتبادلة بين عملاقين هما، الزعيم الماليزى مهاتير محمد والمفكر اليابانى الشهير شنتارو إيشيهارا، صاحب كتاب «اليابان تستطيع أن تقول لا».. وفى «صوت آسيا» يفضح مهاتير الانحطاط الإنسانى الذى انحدرت إليه الثقافة الغربية، ويتوقف مطولاً عند ظاهرة تخلى الأبناء عن آبائهم وأجدادهم فى شيخوختهم، وإيداعهم فى دور مسنين، وهو الأمر الذى ينطوى على خسة وأنانية قذرة، إضافة إلى أن هذه الظاهرة الغربية بامتياز تحرم الأبناء والأحفاد من ثروة إنسانية لا تقدر بمال، تتمثل فى الخبرات الحياتية التى ينقلها الأجداد إلى الأحفاد، وهى خبرات كانت لآلاف السنين أهم أسباب السعادة وراحة البال التى عاشتها الإنسانية قبل أن تدهمها الثورة الصناعية ومن بعدها ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.
هل كان بعض علماء الاجتماع الذين أنتجتهم الجامعات العربية سبباً فى شيوع حالة الرضى باندثار «العائلة الممتدة» التى اندثرت معها مشاعر الأمن والأمان والانضباط الأخلاقى؟.. المؤكد أن التبعية الكاملة للثقافة الغربية كانت رافداً مهماً لانتقال ثقافة التفكك والتفسخ المجتمعى إلى بلادنا.. فقد اعتادت هذه الثقافة أن تصنف الوحدة الأساسية للمجتمع إلى صنفين، الأول هو «الأسرة الديمقراطية» التى تنتشر فى المجتمعات الصناعية المتقدمة وتقوم على أساس المساواة الكاملة بين الزوجين، فلا يتمتع أحد الزوجين بسلطة على الآخر، ولا يتمتع الزوجان بسلطة على أولادهما بعد سن البلوغ، أما الصنف الثانى فهو «الأسرة الاستبدادية» التى تقوم على سيطرة الأب على الأم، وسيطرة الزوجين على الأبناء، والمحصلة أن هذا «العلف الأكاديمى» الذى اجترته مناهج علم الاجتماع فى بلادنا ساهم فى وصولنا إلى هذا الانقطاع عن جذورنا.. كما ساهم -مع أسباب أخرى- فى شيوع مظاهر الأنانية والوحدة والاغتراب والخوف من المستقبل وانعدام الإحساس بالأمن وافتقاد السند والحضن الأسرى والعائلى فى حياتنا العصرية الميتة.
وفى هذا الملف الذى أعدته «الوطن» عن «لمة العيلة».. أو عن «الحضن العائلى المهجور».. سيكتشف كل منا وهو يطالع محاور هذه الكارثة المخيفة أن غياب العائلة كان هو الرافد الأساسى لمعظم ما نعانيه فى هذه الحياة الكئيبة: حياة الانقطاع عن جذورنا أياً كانت.. وحياة الصراع الضارى فى محيط من الكراهية والتمزق وصل بكثيرين منا إلى قتل أقرب الناس إليه.. وإلى تدمير أسرته ونفسه.. وإلى وقوف الأخوة والأزواج متخاصمين فى ساحات المحاكم، لمجرد أننا فقدنا «العزوة».. وارتضينا لأنفسنا أن نعيش كذئاب منفردة بعيداً عن حضن العائلة.