مع مطلع كل عام ميلادى جديد يطل علينا أناس مجاهيل اشتغلوا بالتفاهات، وافتقدوا أدوات الفتوى، ظهروا فى حلائب الفتوى قبل النضج والاكتمال، وتعلق بهم كل متحمس طائش متعصب، ومن هؤلاء طبيب الأطفال «ياسر برهامى» الذى جدد تفاصحه بجهله وتحديه للمجتمع بفتواه بتحريم تهنئة الأقباط بأعيادهم، وزعم أن ذلك أشر من شرب الخمر والزنا»، حيث قال: «أعياد المشركين تتضمن تعظيماً لعقائدهم الكفرية، فتهنئتهم بها شر مِن التهنئة على الزنا وشرب الخمر»، وقال زميله المدعو «حسين مطاوع»: «إذا كنا نقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوى فكيف بمن يشارك النصارى احتفالهم؟!»، وقال زميله المدعو «سامح عبدالحميد»: «تقديم الهدايا، وتبادل التهانى حرام ومنكر عظيم».
ومثل هذه الفتوى تحدث جواً من الاضطراب الفكرى والخلل فى النسيج الاجتماعى، وقد رصد «مؤشر الفتوى العالمى» -الذى تصدره وحدة الدراسات الاستراتيجية بدار الإفتاء- عينة قوامها (3000) فتوى على مستوى العالم تخص الاحتفالات بالكريسماس، تبيَّن أن فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية جاءت بنسبة (35%)، فى حين مثلَّت الفتاوى غير الرسمية نسبة (65%)؛ مما يُبين انشغال تلك التيارات بقضايا من شأنها إحداث خلل فى نسيج الوطن الواحد، ويبين أنها الأعلى فى التأثير على الشباب، حيث إن (80%) من فتاوى التيارات والتنظيمات غير الرسمية تحرِّم الاحتفال بالكريسماس، واحتلت فتاوى الإخوان والسلفيين أكثر من (40%) منها، فى المقابل أجازت فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية الاحتفالات وتهنئة المسيحيين بعيدهم.
والمتدبر فى كتاب الله والحديث الشريف سيكتشف بكل سهولة أن التهنئة أمر محبب، وأن نقل ابن القيم لحرمة التهنئة لا يستند لدليل شرعى، وقد قلتُ كثيراً، (لو أن تهنئة المسيحيين بعيدهم معناها إقرار بما يؤمنون به فى العقيدة فمعنى ذلك أن تهنئة المسيحيين للمسلمين بأعيادهم إقرار بما يؤمن به المسلمون فى العقيدة!).
لكن مسألة تهنئة المسيحيين بعيدهم، وتكفيرهم، والسلام عليهم، وما يقابل ذلك فى الناحية الأخرى من مسائل مشابهة يطلقها متشددون مسيحيون، كل ذلك فرع عن القضية الأصلية المتعلقة بجذور العلاقة بين طرفى الأمة فى مصر، وأن مجرد وجود فتاوى ترد على القائلين بالتحريم ليس كافياً، لأن محاولات علاج الطائفية ما زالت عقيمة، تركز على البيانات الرسمية والإعلامية بعيداً عن العلاج الحقيقى.
الرئيس السيسى أصدر قراراً بتشكيل اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية، فأتمنى أن تلتفت اللجنة لعلاج المشكلة من جذورها، فمثلاً حتى لا تتجدد الفتنة بصورها المختلفة يمكن تفعيل مبادرة تتمثل فى استخلاص المواقف المشرقة بين (المسلمين والمسيحيين)، مع تحويل المسار المعتاد الذى يتبنى فيه الخطاب الإسلامى المعتدل نماذج مشرقة من مواقف المسلمين تجاه الأقباط، ويتبنى الخطاب المسيحى المعتدل نماذج مشرقة من مواقف الأقباط تجاه المسلمين، فنعكس الأمر، ليتبنى المسلمون ذكر مواقف الأقباط المشرقة وهى كثيرة جداً، ويتبنى الأقباط ذكر مواقف المسلمين المشرقة وهى كثيرة جداً، عوضاً عن الصور السلبية التى ينقلها المتشددون من الطرفين، وتكون هذه النماذج مقررات دراسية، يُمتحن فيها الطالب، وتصبح مجالاً للمسابقات الثقافية، وعنواناً للخطب فى المسجد والكنيسة.. وأختم بنموذجين مشرفين من مئات النماذج المشابهة:
- جاء وفد نصارى نجران لرسول الله فأنزلهم فى المسجد النبوى، وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، فكانوا يصلون بجانب المسلمين، ورسول الله والصحابة يصلون فى جانب آخر لا يبعد عنهم.
- وقف الأب «سرجيوس» على منبر الجامع الأزهر إبان ثورة ١٩١٩م فقال كلمة وطنية بليغة: «إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم فى مصر بحجة حماية الأقباط، فأنا أقول: فليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحراراً، وإذا كان الاستقلال يحتاج إلى تضحية بمليون قبطى فلا بأس من هذه التضحية».