هناك حالة من حالات «انعدام الثقة بالذات» ضربت قطاعاً لا بأس به من المصريين. حالة تجد تجلياتها فى العديد من العبارات التى يجلد فيها المواطن ذاته ويسلقها بلسان حاد. من هذه العبارات: «عمرنا ما هنيجى قدام».. «حالنا أسوأ من حال دول كنا نسخر منها بالأمس». يبلغ الأمر بالبعض حد امتداح الأوضاع المهلهلة التى وصلت إليها بعض الدول الأفريقية أو الآسيوية الجارة لنا عند مقارنتها بالأوضاع فى مصر!. هذا البلد عريق فى تاريخه، ممتاز فى جغرافيته. وأياً كان حجم أو نوع الأزمات أو المشكلات التى نعانى منها فسوف تظل مصر دولة لها وضعيتها وحيثيتها المستمدة من نظرة الغير إلى شعبها. وهى نظرة يشوبها الكثير من الاحترام والمزيد من الحذر.
الأصل فى حالة «انعدام الثقة بالذات» يعود إلى الأسلوب الاستعلائى الذى دأب البعض على معاملة المصريين به. وهو أسلوب يجد صداه فى ممارسات الإخوان وأدبياتهم. فما أكثر ما تسمعهم يسفهون من صبر هذا الشعب وتحمله، وتتعالى أصواتهم الساخرة من المواطن المرهق الذى كانوا يحصلون على صوته فى «انتخاباتهم» مقابل زجاجة زيت أو كيس سكر، دون أن ينظروا إلى القذى فى أعينهم وهم يستغلون معاناته لتحويلها إلى جسر يصل بهم إلى كراسى الحكم. أكثر من 80 عاماً والفكر الإخوانى يكرس هذا الإحساس لدى المصريين حتى بلغ الأمر بأحدهم إلى القول ذات مرة «طظ فى مصر». فى أدبيات الإخوان تجد مبدأ عجيباً يقول منظّرو الجماعة بضرورة توفره فى أعضائها. هو مبدأ «الاستعلاء»، ويعنون به الاستعلاء على الآخر، ولا خلاف على أن المصرى الذى لا يحذو حذوهم هو جزء من «الآخر» الذى يستعلون عليه!.
ليس الإخوان وفقط هم من يستعلون على هذا الشعب، بل عانى المصريون كثيراً من النخب الحاكمة التى تعاقبت عليهم طيلة العقود الماضية ولم تتورع عن تسفيه المواطن والنيل منه. لو أنك قرأت الحوار الذى دار بين المندوب السامى البريطانى وسعد زغلول أيام ثورة 1919 ستجد سيلاً من الإهانات وجهها «المندوب» إلى الشعب؛ فاتهمه بالجهل، والعجز عن حكم نفسه بنفسه، والسفه فى التفكير والتدبير. وقد رد سعد باشا ورفاقه على هذه الاتهامات ردوداً ضعيفة ركيكة، حملت اعترافاً مبطناً بها. والمشكلة أن من حكم هذا البلد من المصريين -بعد خروج المستعمر- أحياناً ما يردد عبارات تحمل فى دلالاتها ذات الاتهامات التى وجهها المندوب السامى إلى هذا الشعب. ومؤكد أن الذاكرة المصرية تحتفظ بنماذج عديدة على هذه العبارات.
المشكلة أن تفريغ أى إنسان من فكرة «الثقة بالذات» لا تحسّن من حاله، بل تزيده سوءاً. فلك أن تتصور حال تلميذ يتهمه الأب أو المعلم -طيلة الوقت- بالجهل والغباء والفشل.. هل من المتوقع أن يصبح أفضل أم يزداد سوءاً؟. أضف إلى ذلك أن انعدام الثقة بالذات يؤدى إلى فقدان الثقة فى كل الأطراف المحيطة بالفرد، وهو خطر ليس بالهين ولا بالقليل. عجباً لبشر ينتفون أجنحة طائر ثم يطلبون منه الطيران!.