اختار الإمام محمد عبده «التربية الثقافية» كطريق للإصلاح، وهو طريق أصعب لكنه أضمن لإصلاح الشعب، من خلال إعطاء الأولوية للعمل التربوى والثقافى للأمة، بدلاً من الاهتمام بالدعاية السياسية، لكن أياً من التنظيمات السياسية التى تبلورت عقب غيابه عن ساحة التاريخ لم تتلقف هذه الأفكار وتحاول ترجمتها فى الواقع بصورة فاعلة أو تتسق مع التصور الذى طرحه الشيخ محمد عبده. وقد دعّم هذه الرؤية القائمة على فكرة «الإصلاح التربوى» واحد من كبار تلاميذ محمد عبده، وهو الشيخ رشيد رضا، الذى توسع نظرياً فى شرح وتناول هذه الفكرة من خلال إصداره صحيفة «المنار»، بالإضافة إلى الكتابة فى الصحف الأخرى ليساهم فى بلورة فكرة ولدت فيما بعد فكرة أخطر.. وهى فكرة الإسلام الصحوى.
كان الشيخ رشيد رضا من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية والتعليم، وهو فى ذلك يتفق مع شيخه محمد عبده فى أهمية هذا الميدان، ويرى أن سعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها، خلافاً للشيخ جمال الدين الأفغانى -شيعى التوجه- الذى لم ير للثورة بديلاً. وحدد «رشيد رضا» العلوم التى يجب إدخالها فى ميدان التربية والتعليم لإصلاح شئون الناس، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والعرفان. ولم يكتف بدور الموجه والناصح، وإنما نزل ميدان التعليم بنفسه، وحاول تطبيق ما يراه محققاً للآمال، فأنشأ مدرسة «دار الدعوة والإرشاد» لتخريج الدعاة المدربين لنشر الدين الإسلامى ودعم الخلافة الإسلامية، وجاء فى مشروع تأسيس المدرسة أنها تختار طلابها من طلاب العلم الصالحين من الأقطار الإسلامية، وأن المدرسة ستكفل لطلابها جميع ما يحتاجون إليه من مسكن وغذاء، وأنها ستعتنى بتربية طلابها على التمسك بآداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، كما تُعنى بتعليم التفسير والفقه والحديث، فلا خير فى علم لا يصحبه خلق وسلوك رفيع، وأن المدرسة لا تشتغل بالسياسة، وسيُرسل الدعاة المتخرجون إلى أشد البلاد حاجة إلى الدعوة الإسلامية.
واللافت للنظر فى المشروع الذى تبناه الشيخ رشيد رضا أنه اشتمل على عدد من الأفكار والمصطلحات التى راجت داخل جماعة الإخوان المسلمين، مثل فكرة الدعوة إلى الله، وعالمية الدعوة، واستحضار فكرة الخلافة الإسلامية، بالإضافة إلى ظهور مفردة «إرشاد»، وهى تلك المفردة التى تأسس عليها «مكتب الإرشاد»، الذى يمثل ما يشبه مجلس إدارة الجماعة. فى ضوء ذلك يمكن القول بأن الشيخ رشيد رضا أحدث نقلة فى المفاهيم التى اعتمد عليها الخطاب الإصلاحى للشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوى وغيرهما، خصوصاً فيما يتصل بالعودة إلى مفهوم الخلافة الإسلامية والنكوص عن فكرة الدولة الوطنية التى طالب الإصلاحيون المحافظون بإيجادها وتقويتها حتى تستطيع مواجهة الأطماع الاستعمارية، الأمر الذى يعنى أن الشيخ رشيد رضا مهّد لصعود خطاب سياسى جديد، ارتد عن مجمل التراث النهضوى فى المسألة السياسية، وكان مرجعاً له، وهو: الخطاب الإسلامى الصحوى الذى خلط بين قناعات فقهية سنية وتوجهات سياسية شيعية.