إحساس الغربة القومية كان حاضراً لدى سلمان «الفارسى»، وهو الإحساس الذى فهمه النبى، صلى الله عليه وسلم، فى واقعة حفر الخندق. يحكى «ابن الأثير» أن سلمان هو الذى أشار على النبى، صلى الله عليه وسلم، بحفر الخندق «يوم الأحزاب»، وقسم الخندق بين المسلمين، فاختلف المهاجرون والأنصار فى سلمان، كلٌّ يدعيه أنه منهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سلمان منا، سلمان من أهل البيت».. «سلمان من أهل البيت»، تلك هى العبارة التى وصف بها النبى هذا الصحابى الذى كان من ضمن أهل المدينة، وأسلم بعد هجرة النبى إليها، أى يمكن وصفه بأنه كان من الأنصار الذين انحاز أغلبهم إلى على بن أبى طالب عندما احتدم الخلاف بين المسلمين على تسمية الخليفة بعد وفاة النبى. كان من الطبيعى أن يكون هواه مع أهل البيت.
اختلفت معالم وتفاصيل المشهد (العربى/ الفارسى) بعد معركة «القادسية»، وظهور أسرى الفرس فى الوسط العربى، فاستبدل إحساس الغربة القومية الذى عاشه سلمان بإحساس «الغبن القومى» لدى الوافدين الجُدد. يكفى فى هذا السياق الوصف الذى ارتبط بهم، وصف «الأعلاج» أو «العلوج». وهو الوصف الذى كان يستخدمه عمر بن الخطاب نفسه. وكان أكثر العلوج من الفرس الذين تم أسرهم بعد موقعة القادسية، أو تم استجلابهم للعمل لدى كبار أهل المدينة. وتعكس التسمية نظرة العرب «الاستعلائية» إلى هؤلاء الأعاجم. وقد توازى مع هذه الدونية طبيعة الأعمال التى امتهنها «العلوج»، إذ كانوا يعملون فى الصناعات اليدوية كالحدادة والنجارة وغيرهما، وهى تلك الصناعات التى تعلموها وأتقنوها فى البلاد التى وفدوا أو استوفدوا منها. وتحتشد كتب التاريخ الإسلامى بالكثير من الأحداث التى ترسم صورة شائهة لهؤلاء «الصنّاع»، خصوصاً فى ما يتعلق باستخدامهم فى عمليات الاغتيال أو العدوان على الآخرين. وعلى يد أحدهم اُغتيل الخليفة عمر بن الخطاب.
كان سلمان الفارسى من أبرز معارضى عمر بن الخطاب. وهى معارضة يصح أن تُفهم فى سياق انحيازه لعلى، ولا يعنى ذلك بحال أن «الفارسى» كان استثناءً فى هذا الانحياز، فقد تحيّز الأنصار، وكذا عدد من المهاجرين لعلى، لكن وجه التميز فى أداء «سلمان» ارتبط بترجمة هذا الانحياز إلى مواقف معارضة للخليفة. تأمل المشهد التالى من كتاب سير الأعلام والنبلاء لـ«ابن قتيبة»: «حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت قال: كتب عمر إلى سلمان: أن زرنى. فخرج سلمان إليه. فلما بلغ عمر قدومه، قال: انطلقوا بنا نتلقاه، فلقيه عمر، فالتزمه وساءله ورجعا، ثم قال له عمر: يا أخى، أبلغك عنى شىء تكرهه؟ قال: بلغنى أنك تجمع على مائدتك السمن واللحم، وبلغنى أن لك حلتين حلة تلبسها فى أهلك، وأخرى تخرج فيها، قال: هل غير هذا؟ قال: لا، قال: كفيت هذا». يتعارض مضمون هذا المشهد مع ما عُرف عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب من زهد، لكنها تؤشر إلى أمرين، أولهما حالة الزهد التى امتاز بها «سلمان»، ويتمثل ثانيهما فى الموقف الناقد الذى تبنّاه سلمان من عمر، والذى دفعه إلى عدم التوقف أمام العديد من الفضائل التى امتاز بها الخليفة الثانى، واستغرق فى بعض الهنات البسيطة التى يصح أن تخرج عن أى إنسان.