(1) تحتفى الصحف ووسائل الإعلام المصرية بإبداعات السادة المدرسين التى يقال إنها «خارج الصندوق»! ففى زمن مضى كان السادة أساتذة التعليم الأزهرى يلقنون تلاميذهم مبادئ وكلمات اللغة الإنجليزية على وزن «ألفية ابن مالك»، وهو الأمر الذى منح الإنجليزية، لأول مرة فى التاريخ، شرف استخدام الضمة والفتحة والكسرة والسكون (علامات الإعراب فى اللغة العربية)، حيث يقول الأستاذ، ويردد وراءه التلاميذ، أشياء مثل: «الفأر راتون.. والقط كاتون.. والنهر يُدعى عندهم ريفرو»!! هذه الطريقة الكوميدية العبثية تمنح التلميذ القدرة على حفظ الإنجليزى بالعربى، ولكنه يفشل تماماً بعد ذلك فى استيعاب أى شىء حقيقى من قواعد الإنجليزية أو كلماتها، إلا لو تجاهل ما يقوله المدرس، ثم حاول دراسة اللغة بأسلوب علمى على أيدى متخصصين خارج المعاهد الأزهرية العريقة.
هذا الأسلوب فى تعليم التلاميذ تطور كثيراً هذه الأيام، فى ظل التدهور الخرافى فى مستوى التعليم المصرى فى شتى مراحله وأنواعه. وصارت الصحف وغيرها تقدم للناس نماذج مضيئة من السادة المدرسين الذين يتفانى كل منهم ويتفنن فى الهبوط الإضافى بطرق التدريس، حتى يتمكن من إجبار السادة التلاميذ على حفظ واستيعاب الكلمات والدروس المقررة عليهم. بعض السادة المدرسين يصطحب معه أدوات موسيقية، ويقوم بتلحين وغناء الأجزاء المقررة على زبائنه من التلاميذ والتلميذات، ومدرس آخر يرقص ويغنى «مهرجانات» حتى يقتنع التلاميذ بحفظ كلامه، وإحدى المدرسات تستعيد تجربة المعاهد الأزهرية وتحول الكلمات الإنجليزية إلى قصائد شعرية باللغة العربية، وتضع لها ألحاناً، وتشارك التلاميذ فى غنائها!! كل هذه التجارب -وغيرها- تقرأها حضرتك فى صحف مختلفة مع عبارات فخمة من الترحاب والتحية والتقدير، يكتبها المراسل أو الجريدة على صورة المدرس الذى تمكن من الإبداع المهنى والعلمى والتعليمى «خارج الصندوق».
(2) وصلنا الآن إلى المدرس الذى يحول دروس التاريخ إلى مسرحيات، ويصطحب معه فريقاً من الزملاء يلعب كل منهم دور أحد أبطال الحدث التاريخى، ويؤدى المدرس الرئيسى دور الشخصية المحورية فى كل درس من الدروس.
فى درس «المماليك» -مثلاً- يقوم معاونو أو معاونات الأستاذ بقتل السيدة «شجرة الدر» بالقباقيب أو الشباشب أمام السادة التلاميذ، حتى يتمكن كل منهم من تصديق وحفظ هذه المعلومة.
وفى درس «محمد على» يتولى الأستاذ بنفسه تمثيل دور البطولة ويقتل عدداً من معاونيه، حتى يفهم التلاميذ موضوع «مذبحة القلعة»! وفى درس «الحملة الفرنسية» يلعب الأستاذ دور نابليون بونابرت ويتعرض، خلال الدرس، لثورة القاهرة الأولى والثانية، وربما يتمكن الثوار من قتله أثناء الدرس بدلاً من «كليبر»، وربما يدخل الإسلام مثل «مينو»، وربما يكتشف حجر رشيد بدلاً من «شامبليون»، ثم يسأل الطلاب بعد المسرحية إن كانت هذه المعلومات صحيحة أو خاطئة!
وفى الصور التى نشرتها إحدى الصحف فى سياق الإشادة بعبقرية هذا المدرس وخروجه من الصندوق، كان سيادته يرتدى ملابس محمد على، ويستعد لقتل المماليك فى مذبحة القلعة فور نهاية حواره مع المراسل الصحفى الذى ينقل إبداعاته للصحف.
(3) لو استمرت المدارس أو مراكز الدروس الخصوصية فى تطوير هذا اللون من الأداء فى ظل الإشادة الإعلامية بممارسيه، سوف تشهد البلاد فى السنوات المقبلة بعثاً مجيداً لكل مراحل التاريخ. سوف يذهب أساتذة التاريخ إلى مقار أعمالهم وهم يرتدون ثياب الملك مينا والملك خوفو والبطل أحمس والسيدة حتشبسوت وبعض ملوك الهكسوس فى الشرقية «إلخ إلخ»، بينما يعود «قطز» و«بيبرس» لمواجهة جيوش التتار فى عين جالوت، ويقف عبدالناصر فى ميدان المنشية معلناً تأميم قناة السويس، ويتطوع التلاميذ ومدرسوهم للقتال ضد العدوان الثلاثى فى بورسعيد، وقد تصل حالات استيعاب الدروس إلى حدها الأقصى فيموت المدرس وبعض التلاميذ وهم يؤدون -على الطبيعة- درس حفر قناة السويس، ثم يستشهد بعضهم -أو ينسحبون- أثناء درس نكسة 67!!
(4) المشكلة التى أمامنا الآن -حال الاقتداء بدروس التاريخ والإنجليزى التى قدمتها لنا الصحف- هى كيفية تنفيذ التجربة فى سائر المواد الأخرى. هل يستطيع -مثلاً- مدرس الأحياء تحويل نفسه إلى ضفدع ويطلب من التلاميذ تشريحه فى معمل المدرسة؟ وهل يتمكن مدرس الجغرافيا الطبيعية من تقمص دور جبل أو نهر أو هضبة أو محيط حتى يفهم التلاميذ هذه التضاريس؟! وهل بوسع مدرس التربية الدينية تقمص شخصيات الرسل والصحابة، فضلاً عن الملائكة والكفار «إلخ»؟!
المشكلة الثانية هى الامتحانات، افرض طالب عايز يرقص ويغنى حتى يتمكن من استعادة المعلومة بالطريقة التى اكتسبها بها، هل تسمح له الحكومة بذلك أثناء الامتحان؟!
المشكلة الثالثة تتعلق بوسائل الإعلام التى تتفانى فى التقاط هذه الممارسات التعليمية وتقدمها للناس فى حفاوة بالغة، ويحدث هذا فى ظل تجربة مصيرية تخوضها الدولة لتطوير وإصلاح التعليم فى كل مراحله وأنواعه، فهل السادة القائمون على شأن الإعلام مع الدولة أم عليها؟ وإن كانوا عليها فلماذا لا يطالبون الحكومة بإقالة وزير التربية والتعليم ووضع «أوكا وأورتيجا» فى الوزارة بدلاً منه؟!
(5) يقول التشريعيون الاستراتيجيون إن العرف أقوى من القانون، ولا بد أن يسبقه، ويقول المثل الشعبى المصرى «الإيد اللى ماتقدرش تقطعها.. بوسها»!! ومن هذين المنطلقين، العلمى والشعبى، تفشل كل الحكومات فى القضاء على عيوب قاتلة فى المجتمع المصرى، مثل الثأر والتعصب وتقاليد الزواج وميراث النساء والموالد والدروشة، والشكوى لآل البيت وغيرهم فى الأضرحة والمساجد والكنائس والأديرة، والسحر والشعوذة والكذب والغش والنميمة والشائعات، إلى جانب الأمثال الشعبية التى تكرس فى كثير من الأحيان الشىء وعكسه، ورغم هذا يرددها الناس ويلتزم الكثيرون بها.
الحكومة يستحيل نجاحها فى إصلاح عقول عشرات الملايين من البشر الضائعين، وحتى إن تصدت لتنفيذ هذه المهمة فإن القائمين بالتنفيذ لا بد أن يكون معظمهم من المصابين بنفس الأمراض السلوكية والذهنية التى تضرب عموم هذا الشعب الكريم!
الفساد والتخلف فى بلدنا قضية توافقية، يشارك كل الأطراف فى التعاطى معها بالتراضى والحب، وأحياناً بالتفانى. ومن هنا يتغلب التعليم الحلمنتيشى شعبياً وإعلامياً على نظيره العلمى العالمى المحترم، ولو إلى حين!