«باسم الله الذى خَلَقَ البَشَر جميعاً مُتساوين فى الحقوق والواجبات والكرامة، باسم النفس البَشريّة الطاهرة التى حَرَّم الله إزهاقَها، باسم الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمَّشين الذين أَمَر الله بالإحسان إليهم، باسم الأيتام والأرامل، والمهَجَّرين والنازحين من ديارهم وأوطانهم، وكُلّ ضحايا الحروب والاضطهاد والظُّلْم، والمستَضعَفين والأَسْرَى والمعَذَّبين فى الأرض، دُونَ إقصاء أو تمييز، باسم الشُّعوب التى فقَدَت الأَمْن والسَّلام والتَّعايُش، باسم «الأُخُوَّة الإنسانيَّة» التى تَجمَع البَشَر جميعاً، باسم تلك الأُخُوَّة التى أرهَقَتْها سياسات التَّعَصُّب والتَّفرقة، باسم الحرية التى وَهَبَها الله لكُلّ البَشَر وفطَرَهُم عليها ومَيَّزَهُم بها، باسم العَدْل والرَّحمة، أساسِ المُلْك وجَوْهَر الصَّلاح»..
بهذا الاستهلال الرائع بدأت وثيقة الأخوة الإنسانية التى وقعها الإمام الطيب وبابا الفاتيكان فرنسيس، ووقع معهم أبرز حكام الإمارات محمد بن زايد ومحمد بن راشد، فى أسطورة أخوية نادرة أحسب أنها لن تتكرر ولن يجود الزمان بمثلها، وهذه بعض بنود الوثيقة الرائعة التى لو عملنا ببعضها لعم السلام والوئام البلاد والعباد:
- باسم الله وباسم هؤلاء جميعاً يعلن الأزهر والكنيسة الكاثوليكية تبنى ثقافة الحوار درباً والتعاون المشترك سبيلاً والتعارف المتبادل طريقاً.
تحدثت الوثيقة عن أن التطرف الدينى والقومى والتعصب فى الغرب والشرق أدى إلى بوادر «حرب عالمية ثالثة».
واهتمت الوثيقة بالأسرة الصالحة كنواة للمجتمع والبشرية، وعن أهمية الإيمان بالله وعبادته.
وأدانت كل الممارسات التى تهدد الحياة كالإرهاب والتهجير القسرى والإبادة الجماعية والمتاجرة بالأعضاء والإجهاض.
ونصت على أن الحرية حق لكل إنسان اعتقاداً وفكراً وممارسة، وأن التعددية بأنواعها حكمة لمشيئة إلهية.
وحثت على التلاقى بين المؤمنين فى المساحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية المشتركة.
ورفضت الوثيقة الاستخدام الإقصائى لمصطلح الأقليات لأنه يحمل الإحساس بالعزلة والدونية ويمهد للفتن.
وختمت الوثيقة بأنها ستكون رمزاً للعناق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
لقد تطاول على الإمام الطيب ظلماً وزوراً الصغير قبل الكبير وحاولوا إهالة التراب عليه، فإذا به يمضى بعيداً عن الغثاء بقلب الزاهد وثقة الموصول بربه واثق الخطى ليخط أهم وثيقة فى التاريخ المعاصر مع بابا الفاتيكان المجدد/فرنسيس، أول بابا يصل للخليج.
تجاوز عن الصغائر ولم يحفل بالمتطاولين، وسطر للسلام والوئام والتدين الصحيح أحلى الكلمات وبسط يد الخير الأزهرى، قوافل إغاثة فى غزة وقوافل طبية فى القرى، مراقباً للحق وراحماً للخلق.
عاش د.الطيب طفولته ليرى بعينه الطائرات الإسرائيلية تقصف مطار الأقصر عام 1956 ورأى فى شبابه مأساة يونيو 1967 وعاش انتصارات أكتوبر، ثم بدأ عصر السلام والأمان والإنتاج بعد اقتصاد وخراب الحروب.
وإذا بالحروب تتجدد بعد تفجير برجى التجارة الأمريكيين الذى دفع ثمنه الإسلام غالياً، وأُخِذ فيه أكثر من مليار مسلم بجريرة أفراد لا يزيد عددهم على أصابع اليدين، واستغلت الحادثة أبشع استغلال بإظهار الإسلام فى صورة الدين المتعطش للدماء وتصوير المسلمين فى صورة برابرة متوحشين، وبث الرعب فى الغرب ليس من الإرهابيين ولكن من كل ما هو إسلامى.. وإذا بالغرب يحتل العراق وأفغانستان ظلماً وزوراً ويقتل فيهما قرابة 5 ملايين مسلم ويشرد أهلها ويفقرها.
هكذا حكى د.الطيب قصة «وثيقة الإخوة الإنسانية» وأنها نبتت كفكرة على يد شابين أحدهما الأزهرى محمد عبدالسلام والآخر يوآنس لحظى سكرتير البابا.
ظلت الفكرة تتطور حتى صارت وثيقة عالمية، وقد مدح «الطيب» البابا فرنسيس بأنه رحيم يتألم لمآسى كل الناس بلا تفرقة ولا تمييز أو تحفظ.
توافق الرجلان على معانٍ رائعة ذكرها د.الطيب، منها:
- «أجمعت الأديان على تحريم الدماء وقتل النفس، صرح بذلك موسى (عليه السلام) فى الوصايا العشر على جبل حوريب بسيناء (مصر) وصدع به عيسى (عليه السلام) من فوق جبال الجليل (فلسطين)، وأعلنه محمد (عليه السلام) من فوق جبل عرفات فى خطبة الوداع (مكة).
فليس صحيحاً ادعاء البعض أن «الأديان بريد الحروب وسببها» مما أدى إلى تنحية الدين عن الحياة وإلى الإلحاد ومذاهب الفوضى والعدمية والحرية بلا سقف وأدى ذلك كله إلى محصلة كارثية.
ثم صاح الشيخ الطيب فى العالم صيحة الحق: «إن أزمة الإنسان المعاصر غياب الضمير الإنسانى والأخلاق، وتحكم النزعات والشهوات المادية والإلحادية التى ألهت الإنسان وسخرت من الله ومن المؤمنين به».
ويهتف فى العالم: «أما الحروب التى انطلقت باسم الأديان وقتلت الناس تحت لافتاتها فإن الأديان لا تُسأل عنها وإنما تُسأل عنها السياسات الطائشة التى تستغل بعض رجال الدين وتورطهم فى أغراضها البعيدة عن الدين، ولذلك نادينا فى الوثيقة بوقف استخدام الأديان والمذاهب فى تأجيج الكراهية والعنف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب، فالله غنى عمن يدعو إليه بإزهاق الأرواح أو إرهاب الآخرين باسمه».
ثم أردف الطيب بقوة وحزم مخاطباً المسلمين فى الشرق: «استمروا فى احتضان إخوتكم من المواطنين المسيحيين فى كل مكان، فهم الذين قال عنهم القرآن معللاً مودتهم لنا: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. وقال عن أتباع عيسى: {وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}».
وخاطب «الطيب» مسلمى الغرب: «اندمجوا فى مجتمعاتكم اندماجاً إيجابياً، واعلموا أن أمن هذه المجتمعات مسئولية شرعية وأمانة دينية فى رقابكم».
وخاطب الشباب كله: «اجعلوا من هذه الوثيقة نهاية للكراهية، علموا هذه الوثيقة لأولادكم فهى امتداد لوثيقة المدينة المنورة ولموعظة الجبل».
هكذا تألق الإمام الطيب وسما فوق الضغائن والكراهية..
تحية لكل صناع الوثيقة، وتحية للشيخ الطيب ولبابا السلام فرنسيس الذى أعاد مسيرة يوحنا بولس الذى كان مشهوراً بالحكمة والرحمة والعفو، فهو الذى عفا عن الشاب التركى المسلم الذى حاول اغتياله، ورفض إعدامه وقابل أسرته وأكرم وفادتها..
سلام على صانعى السلام.