اعتاد «ابن كثير» ألا يفوِّت فرصة للإساءة إلى أهل مصر إلا واغتنمها، ويظهر ذلك فى سياق روايته لمسيرة حياة السيدة نفيسة بالمحروسة حتى وفاتها.
يقول: «ولأهل مصر فيها اعتقاد، وقد بالغ العامة فى اعتقادهم فيها وفى غيرها كثيراً جداً، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدى إلى الكفر والشرك». لم يفهم «ابن كثير» ما مثلته وتمثله السيدة نفيسة للمصريين، وأن تركيبتها الشخصية كانت السبب المباشر فى تعلُّقهم بها (قبل وبعد وفاتها). فالشخصيات التى يتكامل فيها ضلع الجود والسخاء، مع ضلع العلم والتعلم، مع ضلع العبادة والزهادة، تترك أثراً بالغاً وبليغاً فى نفوس المصريين، لأنهم أبناء حضارة.
عاشت «نفيسة العلم» بين المصريين فأدفأت حياتهم بحنانها، وأنارتها بعلمها، وطهرتها بتقواها، فارتبط الناس بها برباط وثيق، لا تزال حبائله ممتدة حتى يومنا هذا.
فقلوب الكثير من المصريين ما زالت معلقة بمشهدها المعروف بحى السيدة نفيسة.
وقائع التاريخ تؤكد أن مصر كانت باستمرار المحطة التالية التى يأوى إليها أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم بعد كل محنة مروا بها. عقب محنة كربلاء سارت سيدات البيت الكريم إلى مصر، وعلى رأسهن عقيلة بنى هاشم زينب بنت على، والسيدتان فاطمة بنت الحسين وسكينة بنت الحسين.
لم يشأ يزيد بن معاوية أن ترحل العائلة الطاهرة إلى مراكز الثورة عليه بكل من مكة والمدينة، واستراح أهل البيت حيث سارت بهم الأقدار إلى مصر. وفى مرحلة لاحقة أوت السيدة نفيسة بنت الحسن إلى مصر، بعد محنة مرت بها هى وأبوها «الحسن بن زيد بن الحسن» نائب المدينة فى عصر الخليفة العباسى «المنصور»، وعاشت بين أهل المحروسة تشع من دفئها وحنانها عليهم حتى وافتها المنية فدُفنت فى مصر.
أحب المصريون أهل بيت النبى، وتعلقوا بهم، ومن المؤكد أن ثمة أسباباً تاريخية وموضوعية يمكن أن تفسر لنا حالة الارتباط تلك. لعل من أبرزها ما هو معروف عن المصريين من تبجيل وتوقير لأهل العلم، وقد دأب أهل البيت على تعليم الناس أصول دينهم، وكان من بينهم مَن يتعلم منهم الفقهاء، مثل السيدة نفيسة التى حضر الإمام الشافعى مجالس علمها. وثمة سبب ثانٍ أخطر يتعلق بحنو ورفق أهل البيت بالمصريين. ومن المعلوم أن مَن يرفق بهذا الشعب ويحنو عليه يتمتع بمكانة خاصة فى قلوب أبنائه. وقد ظهر هذا الأمر جلياً فى سيرة السيدة زينب بمصر، حيث دأبت، كما تحكى سيرتها، على إيواء الضعفاء، ليستظلوا بمحبتها ويأنسوا بحمايتها، وهو الدرس الذى تعلمته منها السيدة نفيسة فأظلت بحنانها المرضى والمستضعفين. من الموضوعى جداً أن يتشبث الإنسان العاجز أمام الواقع بأى وسيلة ينتصر بها على ضعفه، حتى ولو كان بالوهم. رضى الله تعالى عن سيدات أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم وأرضاهن، كما أرضين هذا الشعب الطيب.