المصريون يعشقون التنقل من مولد إلى مولد. فما إن انتهوا من مولد السيدة نفيسة أوائل الشهر الحالى، حتى انثال أتباع الطرق الصوفية إلى الاحتفال بمولد «الرفاعى» فى آخره. لا يستطيع أحد أن يفسر على وجه التحديد السر وراء احتفاء المصريين بأقطاب الصوفية، وولعهم الشديد بالمتصوفة، وانخراطهم بالملايين فى صفوف الطرق الصوفية. هل يمكن أن نرد ذلك إلى محاولة ستر ما يمكن أن نطلق عليه «الإيمان الشيعى» الذى حاصره وطارده السلطان صلاح الدين الأيوبى، صاحب الفضل الأول فى إعادة مصر إلى حظيرة المذهب السنى بعد إنهاء تاريخ الدولة الفاطمية الشيعية بمصر؟ أذنت شمس الدولة الفاطمية بالزوال منتصف القرن السادس الهجرى (بدءاً من خلافة العاضد عام 555 هـ). والمتأمل لسيرة السيد أحمد الرفاعى يجد أن مولده كان عام 512 هـ، ووفاته عام 578 هـ، وبالتالى فقد عاصر فى حياته بداية أفول الدولة الفاطمية، حتى وضع صلاح الدين الأيوبى كلمة النهاية فى تاريخها.
لا نستطيع أن نقرر بشكل حاسم هل كان ثمة علاقة بين انتعاش الطرق الصوفية فى مصر، ومن بينها الطريقة الرفاعية، والضغوط التى كان يتعرض لها بعض من ظلوا متمسكين بهذا المذهب من جانب السلطان صلاح الدين أم لا، لكن فى كل الأحوال لا يستطيع المحلل أن يفلت من وجود نوع من التزامن بين الأمرين، ظهر صداه فى الاستقبال الحافل الذى استقبل به المصريون طقوس وأفكار الطريقة الرفاعية التى مات صاحبها فى العراق، لتحيا سيرته من جديد فى مصر. يعرّف الذهبى صاحب «سير أعلام النبلاء» الشيخ أحمد الرفاعى بأنه: «الإمام، القدوة، العابد، الزاهد، شيخ العارفين أبوالعباس أحمد بن أبى الحسن على بن أحمد بن يحيى بن حازم بن على بن رفاعة الرفاعى المغربى ثم البطائحى. قدم أبوه من المغرب، وسكن البطائح، بقرية أم عبيدة. وتزوج بأخت منصور الزاهد، ورُزق منها الشيخ أحمد وإخوته. وقيل: كان شافعياً يعرف الفقه».
هناك تأكيد واضح من جانب «الذهبى» وغيره من المؤرخين على أن السيد أحمد الرفاعى كان شافعياً، فى محاولة لنفى أى شبهات للتشيع لديه. ومن المعلوم أن هناك من ينسب الرجل إلى البيت النبوى ويذهب إلى أنه من أحفاد الإمام موسى الكاظم، ويحسبه على المتشيعين لأهل البيت. هذه الإشكالية لا تلمحها فقط وأنت تتبع سيرة السيد أحمد الرفاعى، بل تجدها حاضرة أيضاً فى رحلة القطب الصوفى السيد البدوى الذى يعتبره البعض سنياً صوفياً، فى حين يراه آخرون شيعياً رافضياً، وهى تؤكد حالة الحيرة التى يمكن أن يقع فيها المحلل وهو يتوقف أمام انتشار الحركات والدعوات الصوفية بمصر بعد زوال الدولة الشيعية التى شيدها الفاطميون، واستمرت لأكثر من قرنين من الزمان، لكن ذلك لا يمنعنا أيضاً من ربط الأمر بالجهود الترويجية التى كان يبذلها أقطاب الطرق الصوفية لنشر «الطريقة» بين المصريين من خلال الإشارة إلى أن صاحب الطريقة ينتمى إلى النسل الشريف.
اعتمد أصحاب الطريقة الرفاعية على أدوات أخرى فى زيادة الأتباع من المصريين. يشير «ابن كثير» إلى هذا الأمر قائلاً: «قال ابن خلكان: ولأتباعه -يقصد الرفاعى- أحوال عجيبة من أكل الحيات وهى حية، والدخول فى النار فى التنانير وهى تضطرم ويلعبون بها وهى تشتعل. يقال إنهم فى بلادهم يركبون الأسود». حكاية أكل الحيات التى اقترنت بأتباع الطريقة الرفاعية تطورت وتمددت بين أتباع الطريقة بمصر، وأصبحت «الرفاعية» وظيفة يتعيّش عليها بعض من احترفوا استخراج وترويض الأفاعى، تنتشر قصصهم وحكاويهم بين المصريين، وكثيراً ما يفزع إليهم من يشتمُّون رائحة ثعبان أو حية فى دارهم. شىء لافت للنظر أن تبدأ الحكاية بكرامة ترتبط بأحد الشيوخ فى العراق لتتحول بعد ذلك إلى حرفة ووظيفة يتعيّش عليها الأتباع فى مصر.