(1)
بينما يتطلع المصريون إلى يوم يكتمل فيه مشروع تطوير التعليم وتتخلص فيه البلاد من الجهل والتطرف والتعصب والبذاءة والتخلف (إلخ)، نكتشف هذه الأيام أن المشروع الحلم يوشك أن يتحول إلى كابوس من خلال عمليات الوزارة لترقيع أهم عناصر ومقومات العملية التعليمية، وعلى رأسها نوعية المدرسين.
تقول أخبار الوزارة إن هناك عجزاً فى أعداد المدرسين، وتقول أخبار أخرى إن المدارس بها فائض من مدرسى بعض المواد مثل اللغة الفرنسية، وتقول أخبار ثالثة إن الوزارة ليست المصدر الوحيد لتعيين المدرسين، لكن هناك مدرسين تتولى السلطات المحلية تعيينهم، ومدرسين يتم تدويرهم عن طريق المديريات التعليمية، وعندنا مدرسون يتركون مواقعهم الأصلية وينتقلون إلى أماكن أخرى تعانى التكدس، ومدرسون آخرون يتحايلون بشتى الطرق المشروعة والالتفافية على التخلص من جداولهم حتى يتفرغوا للدروس المنزلية، ولدينا مدرسون قام السادة المحافظون بتعيينهم أو تثبيتهم أثناء هوجة يناير والأعوام التالية لها رغم أنف الوزارة ورغم عدم وجود درجات مالية لمعظمهم (إلخ.. إلخ)!
(2)
الجديد فى هذه المعجنة التطويرية التعليمية هو ما قدمه اثنان من كبار مسئولى الوزارة فى أحد البرامج التليفزيونية، قال أحدهما إن الوزارة تحاول ابتكار حلول غير تقليدية للتغلب على مسألة نقص السادة المدرسين، وأحد أهم هذه الحلول هو تكليف الإدارات التعليمية بالتعاقد مع الخريجين الذين يؤدون الخدمة العامة فى مواقع تابعة للوزارة للعمل فى وظائف التدريس خلال فترة تكليفهم، وبصرف النظر عن مدى كفاءة أو استعداد كل منهم لشغل وظيفة مدرس!
والحل الثانى -كما قال المسئول الآخر- هو الاتفاق مع وزارة الدفاع على إعارة المجندين خريجى كليات التربية أو الآداب أو العلوم لوزارة التربية والتعليم للعمل فى وظائف المدرسين بدلاً من قضاء فترة الخدمة العسكرية فى صفوف الجيش! وعند تسريح هؤلاء المدرسين المجندين يمكن مواصلة هذه الإعارة والاستعانة بمجندى الدفعات اللاحقة فى السنوات التالية، وهو الأمر الذى قد يقضى تماماً على احتياج الدولة للمدرسين حال انضمام الفتيات الخريجات من خلال أداء الخدمة العامة فى المدارس!!
(3)
الطلاب وأولياء الأمور يقولون إن كل المدارس الحكومية التجريبية واللغات والعادية لا توجد بها دراسة فى الصف الثالث، وإن الطالب فى الصف الثالث الثانوى أو الثالث الإعدادى لا يذهب على الإطلاق للمدرسة طوال العام الدراسى، ولو ذهب لا يجد زميلاً أو مدرساً أو حتى فصلاً مفتوحاً يأوى إليه!! ويقال أيضاً إن أى طالب فى سنة ثالثة إعدادى أو ثالثة ثانوى يواجه وابلاً من السخرية لو حاول الحصول على حقه فى الخدمة التعليمية المقررة بالمجان فى المدرسة، فقد انتهى هذا الأمر منذ سنوات كثيرة، وصارت المدارس الإعدادية والثانوية لا تضم سوى فصول الصفين الأول والثانى، أما الصف الثالث ففى المنزل أو السنتر أو الشارع.
أين مدرسو ثالثة ثانوى وثالثة إعدادى؟ وإن كان ثمة اتفاق أو توافق بين الوزارة والمدرسين والتلاميذ على إلغاء الدراسة تماماً فى هاتين المرحلتين داخل المدارس، فلماذا لا تقوم الوزارة بإلغاء جداول حصص ثالثة ثانوى وثالثة إعدادى وتحويل مدرسيها إلى السنوات الأخرى توفيراً للفلوس ومحاولة لتقليل عجز المدرسين فى شتى التخصصات؟
(4)
فى خضم هذه الفوضى والعشوائية تقرر وزارة التربية والتعليم توفير عشرات الآلاف من الوظائف اعتباراً من أول مارس لمدرسين جدد لسد العجز فى شتى المدارس والتخصصات، ويعلن بيان الوزارة فى هذا الشأن أن هؤلاء المدرسين لن يعملوا سوى ثلاثة شهور فقط ثم يذهب كل منهم إلى حال سبيله، وممنوع منعاً قاطعاً التجديد لأى منهم ومحظور تماماً تثبيت أى مدرس من هذه الجحافل الشبابية التى يتعشم كل فرد منها أن يجد عملاً فى مجال تخصصه، ورغم حاجة الدولة والحكومة والوزارة لهم فإن مصيرهم الطرد بعد تسعين يوماً والعودة للبطالة أو العمل فى توزيع الوجبات السريعة (الدليفرى) على منازل التلاميذ الذين كانوا يدرسون لهم!!
هل هذا الكلام يتسق مع أى نوع من تطوير أو حتى تثبيت التعليم عند الدرجة الحالية من التخلف والعدمية؟ هل المدارس تحتاج فى الفصل الدراسى الحالى إلى ستين ألفاً من المدرسين ولكنها فى العام المقبل لن تحتاج إلى أى منهم لأن أعداداً كبيرة من التلاميذ -مثلاً- سوف يموتون أو يتركون التعليم، أو لأن فريقاً ضخماً من ملائكة التعليم سوف يهبطون على مدارسنا ويحلون محل الفريق المؤقت المطرود بعد ثلاثة شهور من العمل؟!
وفى سياق العشوائية ذاتها، يتساءل الناس عن كيفية استفادة الوزارة ومدارسها وتلاميذها من المدرس التسعينى المؤقت الذى سوف يقضى نصف التسعين يوماً فى استخراج وتقديم أوراقه، ونصفها الثانى فى عملية توزيعه على إحدى المدارس ثم الاستعداد لتقديم إخلاء طرف تمهيداً لإقالته!! هل هذا هو التطوير؟ وهل مثل هذا النوع من المدرسين التراحيل يمكن أن يقدم أى عائد إيجابى بينما تتعامل معه الوزارة بطريقة «الجواز على ورقة طلاق»؟! هل ثمة أى قدر من الكرامة والاحترام يجده الشاب الذى يحصل على عقد تسعينى يستحيل امتداده يوماً واحداً فى نهاية الفصل الدراسى؟ وهل بوسع هذا النوع من المدرسين اكتساب أى قدر من الخبرة العملية أو تحقيق أى نسبة من الجدية بينما يقتلهم الإحباط والمهانة والعشوائية والعدمية؟!
(5)
السادة المسئولون يرفضون زيادة موازنة الوزارة لأن الظروف لا تسمح، ويرفضون إلغاء مجانية التعليم لأن الدستور لا يسمح! فهل الدستور أهم من الواقع؟ وهل الدستور صنم نعبده دون استخدام عقولنا وأعيننا فى قراءة الأحوال الواقعية للبلاد والعباد؟! وهل نحن نطبق مواد هذا الدستور الذى يفرض على الدولة نسبة معينة من الناتج المحلى للإنفاق على التعليم؟ وإن كان متوسط إنفاق أى مواطن مصرى على الابن الواحد فى مرحلة التعليم الأساسى يتخطى الألف والألفين والثلاثة والعشرة فى كل عام دراسى، فهل نرتكب مخالفة جسيمة إذا حددنا ألف جنيه فقط كمصروفات دراسية عن كل تلميذ واستخدمنا العائد فى رفع دخول المدرسين بحد أدنى عشرة آلاف جنيه شهرياً وألزمناهم بالعمل داخل المدرسة وفرضنا عقاباً صارماً على أى شخص لا يلتزم بهذا القانون؟! هل هذا مستحيل؟ وهل يستحيل تعديل الدستور لإلغاء مجانية التعليم التى باتت محل سخرية من كل خلق الله فى هذا البلد؟
(6)
مشروع تطوير التعليم عظيم جداً وفى غاية الاحترام، ولكنه فى الوضع الحالى يحتاج إلى بعض التعديلات التنفيذية التى يفرضها الواقع، أولها إلغاء كليات التربية ما دامت الوزارة عاجزة عن تعيين خريجيها أو إعادة نظام التكليف، وثانيها إلغاء «البزرميط» الرهيب فى نظام التعليم المصرى الذى يشمل مدارس حكومية ومدارس تجريبية ومدارس أزهرية ومدارس أمريكية ومدارس لغات أخوية ومدارس لغات إنجليزية ومدارس فرنسية ومدارس ألمانية ومدارس يابانية ومدارس إخوانية ومدارس كندية ومدارس صناعية نظام خمس سنوات ومدارس صناعية فئة ثلاث سنوات ومدارس زراعية ومدارس تجارية ذات أنظمة مختلفة «إلخ.. إلخ.. إلخ»!!!
شبعنا شكراً وتحية وإعجاباً بالسيد الدكتور طارق شوقى ومشروعه التطويرى العظيم ولكنه عندما صار وزيراً توقف أمام الإمكانيات المتاحة وأغرقته الحكومة والناس فى أضابير إحدى أسوأ الوزارات فى مصر إن لم تكن أسوأها على الإطلاق، ولم يتمكن من تحقيق الحد الأدنى من التنفيذ الإيجابى الفعلى لمشروعه لأنه لا يملك الأموال والسلطات اللازمة لتحقيق ثورة فعلية شاملة فى كل عناصر «نظام اللاتعليم» المصرى الحالى!
مافيش تطوير من غير فلوس يا سيادة الوزير، والزلط ماينفعش يتعمل عليه شوربة!!