ليس هناك أسوأ من فوضى تربية الكلاب وتشريسها لمن أراد وإطلاقها فى الشوارع دون رابط إلا دعوات تسميمها وإطلاق الخرطوش عليها وإبادتها من على وجه المحروسة. من الطبيعى أن يغيب المنطق حيناً، أو يتقلص إعمال العقل برهة، وذلك تحت وطأة كارثة أو ثقل مصيبة، لكن أن يستمر ذلك ويزدهر ويُمهد له الطريق ويحصل على مباركة الإعلام وتدعيم الكثيرين ليتحول إلى أمر عادى، فهذا خطير.
خطر اعتياد «الأفورة» واستساغة المبالغة وتدعيم الغوغائية كأسلوب حياة لن يقتصر على حادث بعينه أو مصيبة دون غيرها، بل سيتحول -أو بالأحرى تحول بالفعل- إلى مسألة عادية ومنهج مقبول فى الفكر والتعامل.
تعامل الغالبية مع حادث اعتداء كلبين على طفل فى «مدينتى» نموذج واضح وصريح للشعوب المبالغة والمفرطة فى كل شىء، وهى كما تبالغ وتفرط اليوم فى رد فعل متطرف ومتشدد، تنساه غداً وكأنه لم يكن وتعتنق إفراطاً جديداً فى حدث جديد وهلم جرا، وتمضى الأحداث وتنتهى الكوارث والأزمات، ولا يبقى لدينا سوى المبالغة والإفراط.
أفرط أصحاب الكلاب ومحبوها والعالمون بطبيعة الكلاب التى تجعل منها خير صديق وفى للإنسان فى رد الفعل المدافع، كما بالغ أعداء الكلاب وكارهوها والرافضون لكل ما يتعلق بهذه الكائنات فى رد الفعل الذى بدا وكأنه «ما صدق» حدوث الاعتداء على طفل «مدينتى» ليتخلص من النوع برمته، وبين إفراط هؤلاء دفاعاً ومبالغة هؤلاء هجوماً، بزغ عوار جديد ضرب البعض من المصريين.
المصريون الذين أسسوا مجموعات عنكبوتية، وشنوا حملات دعائية، ونظموا لقاءات شعبية من أجل تسميم الكلاب وضربها بالخرطوش أينما وجدت كشفوا عن وجه قبيح ضرب المجتمع فى غفلة، جانب كبير من هؤلاء تشبعوا بفكر مشايخ التطرف والتشدد الذين شيطنوا الكلاب وجعلوا كلمة «نجاسة» الكريهة قريناً لها فى أذهان الكثيرين.
قتل المنطق ووأده ربما يحقق نسب مشاهدة عالية، أو يرضى البعض ممن ضربه هسهس التديين المغلوط، كما أنه ربما يسعد البعض ممن يعتبرون الكلاب آفات، أو مروا بتجارب سيئة معها، لكن معايير نسب المشاهدة تتغير وتتحول طيلة الوقت، وما يحقق الفرقعة المطلوبة اليوم لا يحققها غداً، وبدلاً من البحث فى أصل المشكلة، والتنقيب عن جذور المعضلة، إذ بالكثيرين يدورون فى دوائر مفرغة لا تهدف إلى معاقبة الكلاب، وبالمنطق نفسه، فإن التعامل الأمثل مع واقعة وفاة مريض توفاه الله فى غرفة العمليات يكون بإغلاق كل غرف العمليات، وفى حال دهست سيارة مواطناً، فعلينا مصادرة جميع السيارات ومنعها من السير فى الشارع، وإذا أصيب أحدهم بتسمم جراء تناول ساندوتش برجر فاسد، فيبنغى منع بيع وشراء اللحوم فى البلاد، وهلم جرا.
العجيب أن أحداً لا يسأل عن مسئولية من تركوا بعض مربى الكلاب يشرسونها دون ضوابط، ومن لم يدققوا فى قواعد نزول الكلاب مع أصحابها إلى الشوارع، والجهات المعنية التى لم تسأل نفسها عن أسباب زيادة وانتشار الكلاب الضالة فى الشوارع، وغيرها من الأسئلة.
جاهزية المجتمع لأدرينالين الأصوات العالية والثورات العارمة والغضبات الهادرة واضحة وضوح الشمس، وإلا لما انصاع الكثيرون للثنائية المقيتة، حيث المدافعون عن الكلاب والمحبون لها والمؤمنون بأنها كائنات تحمل من صفات الوفاء والإخلاص والدفاع عن صاحبها حتى الموت هم بالضرورة متغاضون عن حماية أبنائنا وكبارنا وزوجاتنا من عضات الكلاب وشراستها، وهى الثنائية نفسها التى تجعل البعض من محبى الكلاب يربونها دون ضابط أو رباط، ويعتقدون أن من حقهم فرضها على غيرهم.
مواجهة أخطار تعرض الإنسان لعضة كلب أو هجومه لا تكون بتسميم كل الكلاب أو ضربها بالخرطوش، الضوابط والقواعد تقينا جميعاً شرور «الأفورة» ومخاطر الغوغائية فى التعامل.