قلنا يا سادة مئات المرات إن القرآن كتاب دين وهداية وعبادات، وليس كتاباً فى الكيمياء أو الفيزياء أو الهندسة أو الطب أو الجيولوجيا، وما جاءنا محمد طبيباً أو جراحاً أو مهندساً أو عالماً، بل جاءنا نبياً، وإن الإعجاز العلمى فى القرآن أكذوبة كبرى، وأكل عيش لهؤلاء المدعين، وإن أهم ما يتصف به العلم أنه يقبل الخطأ كما يقبل الصواب، ويقبل الحذف والإضافة والتغيير والتعديل والتبديل، فليست هناك نظرية علمية «ثابتة»، فكل الحقائق العلمية «مؤقتة». ونرجوكم لا تترقبوا أو تتربصوا اختراعاً أو اكتشافاً علمياً، ثم تمسكوا بخناقه وتلابيبه وتصروا على أنه معجزة قرآنية نائمة بين سطوره طوال أربعة عشر قرناً، فإذا كان الأمر كذلك فلتكثفوا جهودكم وتجيّشوا علماءكم من المشايخ، وتفتحوا أبواب معاملكم على مصراعيها، وليمسك كل واحد منكم بمنظاره وأنابيبه وتلسكوبه ومشرطه ومفتاحه وعدته وتفتحوا كتاب الله وتخرجوا علينا بمعجزة أو بنظرية علمية أو اكتشاف أو اختراع فى أى علم من العلوم. ارحمونا من هذا العبث وهذه الفوضى، ولا تحمّلوا القرآن ما لا يحتمل، ولا تفتحوا علينا أبواباً لا نغلقها أو ناراً لا نطفئها.
أقول هذا بمناسبة ما أثير على شبكة التواصل الاجتماعى عن معجزة القرآن حول «عدة المرأة»، وجاء فيها «لماذا عدة المرأة المطلقة ثلاثة أشهر وعدة الأرملة أربعة أشهر وعشرة أيام؟!»، ويستكمل الخبر أن العالم اليهودى «روبرت غيلهم»، فى معهد ألبرت أينشتاين والمتخصص فى علم الأجنّة، أعلن إسلامه بمجرد معرفته بهذه الحقيقة العلمية وهذا الإعجاز العلمى فى القرآن، بسبب تحديد عدة المرأة ثلاثة أشهر للمطلقة وأربعة أشهر وعشرة أيام للأرملة، حيث إن العلم أثبت أن السائل المنوى للرجل به اثنان وستون بروتيناً، ويختلف من رجل لآخر، كاختلاف بصمة الأصابع، وثبت علمياً أن أول حيض بعد الطلاق يزيل نحو خمسة وثلاثين فى المائة من بصمة الرجل، والحيضة الثانية تزيل نحو خمسة وسبعين فى المائة منها، والحيضة الثالثة تزيل ما تبقى من بصمة الرجل فى رحم المرأة، حتى يصبح نقياً تماماً لاستقبال بصمة رجل آخر، أما عدة الأرملة فهى تحتاج إلى مدة أكبر من عدة المطلقة، لأن الحزن على فراق الزوج يزيد الرحم تمسكاً ببصمة المفارق والرفيق، واكتشفوا أن عدة المرأة كما قررها الإسلام هى الحصانة الأكيدة لخلوّ رحم المرأة من بصمة الرجل، واختتم حديثه: «إن أعجبتك علّق بالحمد لله».
ونحمد الله تعالى ونقول لحضرتك: كلامك كله كلام ساكت وفارغ، وخرافة فى خرافة، ولا يمت للعلم بصلة، فليس هناك عالم يهودى بهذا الاسم فى هذا المعهد، ولم يسلم حين علم بهذا الإعجاز، وليس هناك بصمة للرجل فى رحم المرأة، ولا تحتاج الأرملة عدة أكبر من عدة المطلقة للتخلص من بصمة الرجل لحزنها على فراقه، فربما تكون المطلقة أكثر حزناً على طلاقها، والأرملة سعيدة بفراق من يسبب لها هماً وغماً وتحمد الله على فراقه، وتعال أقل لك شيئين مثيرين: الأول أن عدة المرأة معمول بها فى الديانة اليهودية قبل الإسلام، يقول التلمود: «لا تقوم الأرملة بأداء الخلع أو الزواج من أخى زوجها المتوفى، (وكان هذا «تشريعاً» أن يتزوج الأخ أرملة أخيه حفاظاً على الأولاد، وكان معمولاً به فى ريف مصر «عرفا سائداً» استقر عليه الناس دهراً من الزمان حفاظاً على الأرض والأولاد) حتى تمر عليها ثلاثة أشهر من وفاة زوجها». ولا تفرق الشريعة اليهودية بين عدة المطلقة والأرملة، فلا يجوز الزواج منها إلا بمرور ثلاثة أشهر من الوفاة أو الطلاق، ولم تربط الديانة اليهودية بين مدة العدة والحيض. الأمر الثانى أن الحال كان كذلك فى الجزيرة العربية قبل الإسلام، فكانت عدة المطلقة ثلاثة أشهر «قروؤها» أو حيضها. وكانت الغاية المحافظة على الأنساب كراهة أن يختلط بعضها ببعض، وربط الإسلام بين مدة العدة والحيض، وكانت عدة الأرملة عند العرب سنة كاملة، وهى مدة حدادها، وتُمسك الأرملة عن الزينة والتطيب، ولا تقلم أظافرها، ولا ترتدى ملابس جديدة، ولا تمشط شعرها، إلا أن الإسلام خفضها من سنة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام. هل بعد هذا يستطيع اليهود أن يتفاخروا بالإعجاز العلمى فى التلمود؟ أو يتفشخر الجاهليون بالإعجاز العلمى للجاهليين؟ ومَن الأحق بهذا التفاخر وهذه الفشخرة وهذا الزهو، المسلمون أم اليهود أم الجاهليون؟
نحن أمة موبوءة بالجهل والتخلف، رهنت نفسها للوهم والخرافة، أمة مصيرها الانقراض، فهى لا تحمل داخلها عوامل الاستمرار والبقاء، وهى التفاعل والاندماج والتأثير فى المجتمعات، وانكفأنا على أكاذيب أهلنا، وصدقنا أن جنسنا أحسن جنس، وأن تاريخنا أعظم تاريخ، وأن حضارتنا أصدق حضارة، وأن العالم يستخلص علومه من قرآننا وديننا، والأخيرة كذبة كبرى، تتوارثها أجيال ضلل بعضها بعضاً، وسنكتشف قبل الانقراض بساعات أن جنسنا وتاريخنا وحضارتنا كانت تكتبه أقلام خائفة مرتعشة، وينسخه نسّاخ مزورون ومدلسون، ويتغنى به وينشده متكسبون ومتربحون، وأن العالم كله كان يعرف حقيقتنا إلا نحن.