الوصايا العشر
بين الخطاب العنصرى وخطاب السماحة
بين اليهودية والمسيحية
(1) الخطاب العنصرى
تحتل الوصايا العشر صدارة الخطاب الدينى اليهودى.. وتكاد تكون على شهرتها دستوراً للشريعة اليهودية، وجاء ذكرها فى عدة مواضع من التوراة، ووردت لها صيغة فى سفر الخروج 20: 2 -17، وأخرى فى سفر التثنية 5: 6 - 21، وثالثة فى سفر الخروج 10:34 -26، وتكاد الصيغتان الأولى والثانية، وهما أشهر الصيغ، تتفقان فى الخطوط العريضة فيما عدا تفاصيل قليلة، يهمنا منها فى معرض استقصاء موقف الديانة اليهودية من «الأغيار»، ما جاء بالشطر الثانى بالصيغتين من توصيات تقول تباعاً: لا تشهد على «قريبك» شهادة زور، ولا تشته امرأة «قريبك»، ولا تشته بيت «قريبك» ولا حقله ولا عَبْده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما «لقريبك»!!!
وتكاد تتفق نسخة التوراة السامرية اتفاقاً تاماً مع هاتين الصياغتين فى ربط النواهى بما يخص ذوى القربى أو الأقرباء. فشهادة الزور المنهى عنها هى فقط التى تمس «القريب» ما يفيد بمفهوم المخالفة أنه لا تثريب إن مست غير القريب. والاشتهاء المنهى عنه مقيد بدوره بما يكون لذوى القربى أو الأقرباء: امرأة «القريب» أو«أمة» القريب أو «عبد» القريب أو بيته أو حقله أو ثوره أو حماره أو أى شىء مما يمتلكه هذا «القريب». وبذلك أدارت هذه الوصايا ظهرها للأغيار، ولم تقدم لهم الحماية التى تعطيها للقريب!!! يتعانق مع هذا الموقف اللافظ للأغيار، المنظور العرقى الذى تقوم عليه الديانة اليهودية والهوية اليهودية، حتى الرب تجعله اليهودية رب أو إله «إسرائيل»، وزادت الصيغة الثالثة للوصايا العشر على هذه الوصايا المنطلقة من منظور عرقى، فحرمت قطع العهد مع الأغيار، بل حضت على المساس بممتلكاتهم وأشيائهم.. ومما جاء فى هذه الصيغة (الخروج 34: 10 - 26): «احفظ ما أنا موصيك اليوم. ها أنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحيثيين والفريزيين والحويين واليبوسيين، احذر من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التى أنت آت إليها لئلا يصيروا فخاً فى وسطك. بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم، فإنك لا تسجد لإله آخر لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو! احذر من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض فيزنون وراء آلهتكم ويذبحون لآلهتكم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزنى بناتهم وراء آلهتهم»!!!!.. هذه الصياغة تنهى وتحذر فى وضوح صريح عن قطع العهد مع الأغيار «لئلا يصيروا فخاً فى وسطك!!»، وعن الزواج من بناتهم: «فتزنى بناتهم وراء آلهتهم»!!!.. ثم هى تبيح ممتلكات الأغيار، هدماً وتدميراً، وتنطلق فى هذا كله من ذات المنظور العرقى والتميز للشعب المقدس المختار!!!
هذا النظر فى الصيغ التوراتية الثلاث للوصايا العشر، بسفرى الخروج والتثنية، نظر مغرق فى مجافاة الأغيار، يربط الحماية والرعاية ويقصرها على «القريب» دون سواه، فتحريم الشهادة الزور أو اشتهاء زوجة الغير أو ممتلكاته أو كل ما يخصه لا يكون إلاَّ بالنسبة «للقريب» ما يعطى انطباعاً بمفهوم المخالفة أنه لا عناية ولا احتفاء ولا حماية «لغير القريب»!!! يتأكد هذا المنظور العرقى اللافظ للأغيار، بما ورد عن طرد الأغيار والتهيئة لنول أراضيهم، وتحريم قطع العهد معهم، بل وهدم وتدمير ممتلكاتهم، وتحريم الزواج من بناتهم!!
(2) خطاب المسيحية السمح
ومع أن العقيدة المسيحية تدرج العهد القديم فى شطرى الكتاب المقدس، إلاَّ أنها لم تساير هذا المنظور فى صياغتها للوصايا المقابلة الواردة فى الأناجيل، فحذفت منها جميعاً «شرط القرابة» كشرط لإعمال وتطبيق الوصية. فى إنجيل لوقا 18: 18 -20، حين سئل السيد المسيح عليه السلام عن العمل الصالح، قال: «أنت تعرف الوصايا. لا تزنِ. لا تقتل. لا تسرق. لا تشهد الزور. أكرم أباك وأمك»، ونفس هذه الصياغة بحصر اللفظ، فى إنجيل مرقص 10: 19، وهو هو ما ورد بإنجيل متى 19: 18، 19 الذى لم يضف إلى هذه الوصايا التى خلت من شرط «القرابة» إلاَّ وصية «أحب قريبك كنفسك»، ومغزاها أن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه. وعلى مثل ذلك جرت رسالة بولس إلى أهل رومية 13: 8 -10، فحذفت هى الأخرى «شرط القرابة» من الوصايا. وبذلك التفتت المسيحية إلى غلط ومحاذير ربط الوصايا بالقرابات، لأنه ربط يصدر عن مفهوم عرقى لم تقبله المسيحية التى اتجهت بالمحبة والسماحة إلى الجميع!
فى القرآن الكريم
المفترى عليه
لا يربط القرآن صدق الشهادة والتحذير من الكذب فيها بأن تكون لقريب.. فالشهادة فى ديانة الإسلام واجب، لله والحق.. «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ» (الطلاق 2). الشهادة التى تكون لله، لا بد أن تكون شهادة صدق وعدل. لا يعلق هذا الواجب على أى شرط، بل ولا ينبغى أن يحول دون الصدق فيها أن تقع على قريب، أو حتى على النفس. حق «الغير» هو المقدم فى الشهادة لإعلاء العدل والإنصاف. لا يرضى الإسلام للشاهد إلاَّ أن يكون عادلاً فى شهادته، ولا يعذره فى ذلك عذر مهما بلغ.. لا شنآن الخصم يعذره، ولا قرابة القريب تعفيه، ولا كون المشهود عليه يمسه هو شخصياً أو يمس أحد ذوى قرباه.. فى القرآن المجيد: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى» (الأنعام 152).. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ» (النساء135).. «يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» (المائدة 8). تحريم الشهادة الزور تحريماً عاماً أياً كان من تمسه شهادة الزور، قريباً أو بعيداً، صديقاً أو عدواً. لا يتقيد النهى عن الشهادة الزور بأى قيد من عرق أو قرابة أو صداقة. فى القرآن الحكيم: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور» (الحج 30).. بل إن البعد عن الشهادة الزور أياً كان المشهود عليه، صفة لازمة وحتمية من صفات المؤمنين الذين فيهم قال القرآن: «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً» (الفرقان 72).