أحمد خالد توفيق
شعور متجدد بالفقد لدى هؤلاء الذين ساقهم القدر فى دائرته المقربة، لم يمر العام بسهولة، البعض لم يستوعب بعد أنه رحل من الأساس، لا يخفف من صعوبة الموقف سوى بعض العزاء من إرث الراحل، يجدون فيه بعضاً من السلوى والطمأنينة أنه «لا يزال هنا».
«كل يوم الصبح باخد خمس دقايق عشان أقدر أستوعب إنه مبقاش موجود»، هكذا هو الحال مع الكاتبة نورا ناجى، الفائزة بجائزة ساويرس فى الرواية هذا العام، علاقة ليست بالقصيرة بينهما بدأت فى الصف الخامس الابتدائى حين قرأت للمرة الأولى رواية لأحمد خالد توفيق، أتبعتها بعدد غير قليل منها على مدار سنوات، قبل أن تقرر ومجموعة من صديقاتها التواصل معه أخيراً «كنا فى أولى ثانوى، وكان بيعمل ندوات كتير فى بلدنا طنطا، بس كنت بتكسف طول الوقت أتواصل أو أتكلم لحد ما قررنا نقابله». بداية كانت لتقضى على كل شىء لولا دماثة خلق الرجل: «كان لطيف بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مايكسفش حد أبداً، خاصة الشباب الصغيرين لأنه عارف إنه لو كسفهم هاتبقى كسرة كبيرة، منى صديقتى كلمته وطلبت نشوفه وفعلاً جالنا بعد ما خلص شغله فى الكلية، يومها كنا طالعين من المدرسة حالتنا كرب، وهو خارج مرهق من شغله، لكنه استجاب لنا وقعدنا معاه، ومن أول لقاء حس إنى عندى موهبة فى الكتابة، رغم خجلى وقلة كلامى، لكنه كان موهوب فى إنه يميز الناس اللى عندها شغف بالكتابة، بقيت أروحله الندوات ولما بقيت فى الجامعة بقيت أروحله مكتبه مع أصحابى «نقرفه» بس كان بيستحمل، لحد ما بدأ منتدى الروايات، بدأت دايرة المحبين تكبر، كان تجمع ضخم، بيتحرك مع بعض، يروحله المعرض، ننظم فطار فى رمضان، أنا كان عندى ميزة إنى فى طنطا».
مئات الرسائل الإلكترونية ما زالت تحتفظ بها، بينها وبين الراحل: «كنت بزهقه بإيميلات طويلة عريضة عن أمور تافهة جداً، لكنه كان بيرد رغم مشاغله كان بياخد وقت عشان يكون لطيف مع الناس اللى بتحبه».
رحيل تراه «نورا» غير مكتمل، جاء مفاجئاً ليصيب الجميع بألم شديد: «فيه حالة عدم تصديق عندنا، أنا وأصدقائى بنتكلم عنه بصيغة الحاضر «دكتور أحمد قالى كذا» هو موجود فى كل بيت، صور كتير جداً معاه، الناس اللى من طنطا بنقعد فى نفس الأماكن، قهوة أبوالهول، أو كافيه «جرانيز»، ما زلت بقعد على نفس الكرسى فى نفس المكان».
عزاء قدمه الراحل بنفسه قبيل الرحيل يبدو السبب الوحيد لـ«نورا» كى تتقبل الأمر: «كان دايماً بيفتكر ويفكرنا إنه قرب من الموت، كان بيقولنا أنا خلاص بقيت فى محطة سيدى جابر.. محطتى قربت، ودايماً بيؤهلنا إنه مفارق، الأهم إنه ما كانش عنده مانع، بالعكس، كان فضولى جداً، ونفسه يعرف إجابات لأسئلة كبيرة فى عقله، اللى مطمنى إنه أكيد مبسوط لأن الموت فيه إجابات كاملة، بحس إنه كده وصل للى هو عاوزه وقاعد مع الناس اللى كان بيحبهم محمد عفيفى وتشيكوف، ودى الحاجة الوحيدة اللى بتعزينى». تطيل النظر لذلك الرف الكامل من أعماله، سلاسل وروايات، صورته المعلقة فى ركن الغرفة وإهداءاته: «بقول لنفسى إنه لسه موجود، اللى نقص إنى أكلمه فى التليفون؟ أو أشوفه؟ ولاده لسة موجودين جيرانى وبشوفه فيهم طول الوقت».
«مش عايز أفقد دكتور أحمد، باحسس نفسى إنه موجود دايماً والرسمة اللى رسمتها يوم وفاته بالمعنى ده، هو عايش جوانا كلنا»، علاقة قوية للغاية، لم تؤثر فيها ظروف البعد المكانى ربطت الراحل بالدكتور شريف عرفة، فنان الكاريكاتير والباحث فى علم النفس الإيجابى، الذى لطالما شبهه الراحل ببطل سلسلة «سفارى» الدكتور علاء عبدالعظيم، فضلاً عن الذكر المتكرر له فى مقالاته باعتباره نموذجاً للشاب المجتهد، لم يكن نبأ الرحيل سهلاً على «عرفة»: «كل حاجة باعملها باحس إن له فضل عليّا فيها، علاقتنا مركبة، كان صديق وأب وأخ ومعلم ومثل أعلى، اتعلمت منه حاجات كتير لسه بمارسها فى شغلى، كنت أستشيره باستمرار كتلميذ فى تفاصيل بحثية وأكاديمية فى الماجستير، وده جانب عظيم منه محدش لمسه، كنت أفضفض له كصديق حميم بأسرار حياتية وتفاصيل وأرجع البيت أقرأ أعماله بكل استمتاع، مزيج مش ممكن يتكرر، دائماً فى بالى، غير إنى باعيد قراءة كتبه طول الوقت».
مكانة خاصة كان الراحل يكنها لصديقه الروائى المخضرم نبيل فاروق، لطالما اعترف بفضله فى عالم الكتابة: «لولا مساعدته لى على نشر أعمالى لصرفت نظر عن الكتابة»، لكن هذا لم يمنعهما من الاختلاف مع صديق عمره وحتى الـ«تريقة» على رجل المستحيل، علاقة معقدة، طويلة وعميقة جمعته بزميل المؤسسة العربية الحديثة، وابن بلده «طنطا»: «عشرة من سنة 92، قبلها كان بينا مشتركات كتير لكن ما كناش نعرف بعض، كنا بنكتب زى بعض، ساكنين فى نفس المنطقة يفصل بينا شارع واحد، اتخرجنا من نفس الكلية، ونفس الجامعة، حتى إنى اكتشفت إننا كتبنا فى نفس العدد السابع من السنة السابعة لمجلة تان تان مع بعض فى باب الهواة، كان هو عمره 15 سنة وكنت أنا فى الكلية»، يتحدث نبيل فاروق مستعيداً صديقه «توفيق».
يبدو كل شىء حياً فجأة فى ذلك الموضع بالذات من منطقة مصر الجديدة: «كنا بنتقابل على طول فى مكتبى فى روكسى، نخلص شغلنا فى المؤسسة ونطلع مع بعض المكتب نشرب شاى ونتناقش فى الأفلام والكتابة، والأحداث وتفاصيل كتير جداً ماتهمش حد غيرنا».
«لا تزال تلك السلسلة فى مكتبته تذكره بالراحل: «كان بيحب القصص المصورة جداً، خصوصاً قصص الرعب منها، كان فيه سلسلة اسمها «بامبريلا» قصص رعب إنجليزية مصورة كان دايماً يحب يستعيرها ويقراها ويرجعهالى تانى»، علاقة صداقة تخللتها الكثير من النقاشات والاختلافات التى انتهت باتفاق على عدم النقاش فى الأمور الخلافية ما دام كل طرف قد اقتنع برأيه: «كان إنسان خلوق جداً ورقيق جداً، ماشفتش أرق منه، تحب تعاشره». لقاءات بسيطة غير مدبرة بمكتب روكسى ما زالت تثير الشجون والعزاء أيضاً بنفس نبيل فاروق: «كل لما أروح المكتب أحس إنه جوه، بفتكر نقاشنا وحكاياتنا وحتى اختلافاتنا أحسه ما زال موجوداً».
تعليقات الفيسبوك