تتسارع الأحداث فى الجزائر بشكل غير مسبوق، ففى أقل من 24 ساعة تتوالى التطورات على نحو مثير ومتشابك. إذ ينفى الجيش صدور قرار من الرئيس «بوتفليقة» بإقالة رئيس الأركان ويصف ذلك بالشائعة، بينما ترصد الكاميرات ترتيبات أمنية مكثفة من الجنود والسيارات تحيط بمبنى الإذاعة والتليفزيون الرسمى ليلة أمس، وتقوم النيابة العامة بالتحقيق مع عدد من رجال الأعمال وشخصيات عامة لم تحددهم لشبهات تتعلق بالفساد وإهدار المال العام، وفى وسط ذلك كله يصدر بيان منسوب لمؤسسة الرئاسة يفيد بأن الرئيس سوف يستقيل قبل موعد انتهاء عهدته فى 28 أبريل الحالى، ولكنه سيقوم باتخاذ عدة قرارات لم تحدد ماهيتها لضمان استمرار عمل المؤسسات وانتظام سير الدولة. ويرجح محللون أن يكون من بين هذه القرارات اعتماد التشكيل الحكومى برئاسة نورالدين بدوى الذى استُبعد منه رمطان العمامرة بينما كان يمثل الجزائر فى القمة العربية بتونس. وربما أيضاً إقالة رئيس الغرفة الثانية من البرلمان عبدالقادر بن صالح، وهو المؤهل دستورياً لكى يدير البلاد لمدة 90 يومياً فى حال إعلان المجلس الدستورى شغور منصب الرئيس، وربما ثالثاً حل البرلمان ذاته، وبالتالى إنهاء أى تغيير طبقاً للمادة 102.
فى خلفية هذه التطورات ما زالت الجموع الشعبية والنقابات المهنية تجوب الشوارع كل جمعة رافعة شعارات ومطالب متناقضة، والغالب منها دعوة إلى رحيل جميع من بالسلطة فوراً. وبيان سابق لقيادة الجيش يرى أن الحل هو فى تطبيق الدستور لاسيما المادة 102 التى تنظم حالة شغور منصب الرئيس للمرض العضال أو الوفاة أو فقدان القدرة على ممارسة المهام، مع التأكيد على التزام الجيش بمهامه المحددة دستورياً فى الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، والتى أشار إليها بيان ثانٍ لقائد الأركان وفقاً للمادة 28 من الدستور، والتى تحصر انتظام الطاقة الدفاعية للأمة حول الجيش الوطنى، ومهمته الدائمة وهى المحافظة على الاستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية.
غير أن طرح الحل الدستورى حسب نص المادة 102، الذى نادى به من قبل شخصيات سياسية ذات وزن، لم يجد سوى التجاهل من البعض ورفض صريح من البعض الآخر حين ورد فى بيان قائد الأركان، لاسيما بعض أحزاب المعارضة التى اجتمعت فى مقر حزب أصولى وطالبت بما أسمته الاحتكام للشعب، وتجاوز الدستور وتشكيل هيئة رئاسية تدير البلاد لفترة وجيزة، معتبرة أن هذه الإجراءات هى التى تنهى الأزمة وترضى المتظاهرين وتحقق هدف إسقاط النظام. وهناك من برر رفض تطبيق المادة 102، بأنها ستسمح باستمرار عناصر النخبة السياسية التى يصر الشعب على رحيلها جملة وتفصيلاً، استناداً إلى مادة أخرى وهى المادة 7 فى الدستور التى تقر بأن السيادة للشعب، وأن ما يجرى فى الشارع من مطالب جماهيرية هو تلك السيادة التى يجب الالتزام بها. بينما يرد سياسيون بأن مادة السيادة للشعب لها معنى فلسفى وتنظيرى، فى حين يرى قانونيون أن السيادة المنصوص عليها فى المادة السابعة تم تفسيرها فى المادتين التاليتين الثامنة والتاسعة، وحددت ممارسة تلك السيادة من خلال المؤسسات وليس من خلال المظاهرات.
وهى تفسيرات متناقضة ولها أغراض سياسية من شأنها أن تثير البلبلة أكثر لدى جموع المتظاهرين، وغالبيتهم الساحقة لا تدرك المعانى الظاهرة والباطنة فى المواد الدستورية، التى يخضع تأويلها غالباً إلى تفسيرات شتى، حتى من قبل المتخصصين أنفسهم. فى الوقت ذاته تبدو الدعوة إلى تشكيل مجلس رئاسى يدير البلاد لفترة انتقالية فاقدة لأى أساس قانونى أو دستورى، ولا ضوابط تحكمها وسوف تدخل البلاد إلى مرحلة شد وجذب شديدين لا يمكن السيطرة عليها، لاسيما أنها ستكون بلا أساس دستورى وستحكمها توافقات حزبية وسياسية والمزاج العام والصاخب الوارد من الشارع، وغالباً لن تقبل بها مؤسسات الدولة المختلفة، وقد تحدث فى يوم ويتم الانقلاب عليها فى اليوم التالى، مما يدخل البلاد فى فوضى من النوع الثقيل. وبالتالى تتحقق فوضى باسم مطالب المواطنين الغاضبين، فى حين أن جوهر ما يطالبون به هو إصلاح جذرى وليس الدخول فى متاهات سياسية بلا ضوابط.
مجمل الأحداث على هذا النحو، ومعدل دورانها السريع ورفع المتظاهرين مطالب الحد الأقصى بما فى ذلك تجاوز حلول دستورية واضحة المعالم، يفتح الباب أمام أحد احتمالين؛ إما حلحلة فى الأزمة السياسية فى حال صدرت قرارات من الرئيس بوتفليقة ترضى جموع الجزائريين أو الغالبية العظمى منهم، وبالتالى تدور عجلة التهدئة وفق أفق دستورى مقبول، وإما أن تزيد الموقف تأزماً، وتضع البلاد على سطح أشد سخونة مما هى عليه. ومن خلال ملاحظة المد الجماهيرى الذى تغذيه أحزاب معارضة بقوة يتضح أن الغالب هو الرفض لأى قرارات قد تصدر عن الرئيس، باعتبارها تكرس النظام القائم مهما كانت طبيعتها الدستورية شكلاً، فى حين أن المطلوب هو التغيير الجذرى للنظام سواء بالدستور أو بغيره. وكثير من السياسيين يرى أن تلك القرارات مرفوضة حتى قبل أن يقررها الرئيس، لأنها باختصار نتيجة تحايل المجموعة المحيطة به والتى تحكم باسمه، وهى أصلاً فاقدة للشرعية الدستورية، ولا يحق لها أن تصادر المستقبل.
فى خضم تلك السجالات والتأويلات تبرز شائعة إقالة رئيس الأركان، وكأنها فى حال صحتها بمثابة عقاب له على تخليه عن الرئيس «بوتفليقة» حين طالب بتطبيق المادة 102 من الدستور. وليس مستبعداً أن تكون تلك الشائعة مقصودة لبيان كيف سيكون رد الفعل من حركة الشارع والسياسيين والمؤسسات السيادية الأخرى، وعلى ضوء تلك الاستجابات سيكون القرار الرئاسى لاحقاً، إما بتحويل الشائعة إلى حقيقة، أو وأدها فى مهدها. وأياً كان التفسير فمثل هذه الشائعة سيكون لها ما بعدها من نتائج وتأثيرات، خاصة فى ضوء التقارير التى أوردت اجتماعات لقيادات عسكرية مع نظراء فرنسيين ومشاركة بعض مستشارى الرئيس للبحث عن مخرج للأزمة ولم يعلن عن محتواها، ولم تكن بعلم رئيس الأركان. وهو ما يشكل خروجاً على ضوابط العمل فى المؤسسات الأمنية والدفاعية، ويؤكد أن كثيراً من الأمور باتت أكثر خطورة مما تبدو على السطح، وربما تتطور إلى مسارات غير مرغوبة وقائمة على حسابات خاطئة.