غياب «ثقافة الادخار» معضلة الاقتصاد الوطنى.. وسياسات «المركزى» ترفع معدلاته إلى 7٫4٪ من الناتج المحلى
ترسيخ ثقافة الادخار
الادخار والاستثمار لعبة تحكمها قوانين الاقتصاد، سواء على المستوى الكلى بما يشمله من دول، أو حتى على المستوى الجزئى، بما يحتويه من مؤسسات وأفراد، فتؤكد جميع القوانين الاقتصادية أنه إذا أمكنك زيادة محصّلة الادخار، ستسمح لك الفرصة بالتأكيد من استغلال هذه الموارد المدّخرة فى الاستثمار وتوليد قيم مضافة جراء هذه العملية، وبالتالى زيادة دخلك على المستوى الشخصى أو نمو الناتج المحلى الإجمالى على مستوى الدول، لذا تعكف الكثير من الدول، بمختلف مذاهبها الاقتصادية، على الادخار كعنصر حماية وأمان ضد التقلبات الاقتصادية والاجتماعية.
وتستخدمه الدول كأداة فعّالة فى تحقيق الأهداف الاقتصادية والتنموية، وذلك من خلال دوره فى تمويل المشروعات التنموية دون اللجوء إلى الاقتراض من الخارج، الأمر الذى يسهم فى توفير المزيد من فرص العمل، بجانب دوره فى ضبط معدلات الاستهلاك التى تؤثر بالإيجاب على كل من التضخّم من خلال تقليص فجوة الطلب مقابل العرض، والميزان التجارى عن طريق تراجع الطلب على السلع الخارجية والمحلية التى لها فرص للتصدير، الأمر الذى يدفع هذه الدول إلى تنمية الوعى الادخارى بين أفرادها بكل السبل.
محمود محيى الدين: القطاع العائلى صاحب النصيب الأكبر فى معدلات الادخار.. واستهداف محافظات الصعيد يُحدّ من آثار الاكتناز السلبى
وعلى الصعيد المحلى، فقد شهدت معدلات الادخار نمواً خلال السنوات الأخيرة، حيث وصلت نسبة الادخار إلى 7.4% من الناتج المحلى الإجمالى بنهاية الربع الأول من 2018/ 2019، مقارنة بـ4.1% خلال الفترة نفسها من العام المالى 2017/ 2018، وفقاً لأحدث إصدارات البنك المركزى، وهو ما يبرز دور السياسات الإصلاحية، التى اتبعها البنك المركزى فى هذا النمو، حيث اتّجه الكثيرون إلى الاستثمار فى الأوعية الادخارية التى أصدرتها البنوك آن ذاك، بمعدلات فائدة تصل إلى 20%، فى ضوء رفع البنك المركزى معدلات الفائدة، لامتصاص موجات التضخّم التى تعدّت الـ30%، عقب تحرير أسعار الصرف.
ورغم هذه الزيادات التى شهدتها معدلات الادخار، فإنها ما زالت بعيدة تماماً عن معدلات الادخار عام 2007، التى وصلت إلى 24% من الناتج المحلى الإجمالى وفقاً لما ذكره المجلس الوطنى المصرى للتنافسية؛ ليطرح السؤال نفسه: هل ستظل معدلات الادخار مرهونة بتغير أسعار الفائدة، سواء فى حالة استمرار توجهات «المركزى» المرجّحة بتثبيت أو تخفيض أسعار الفائدة والعوائد على الأوعية الادخارية، أو حتى ارتفاعها مؤقتاً، مع تحريك أسعار الطاقة المرتقبة؟.
واجتمع الخبراء على أن غياب الثقافة الادخارية الصحيحة لدى المواطنين يُعد المحدد الرئيسى فى حركة معدلات الادخار، وبالتالى معدلات الاستثمار خلال الفترة القادمة، حيث أدى غياب هذه الثقافة إلى اتباع الأفراد قنوات قد تضر بالاقتصاد الوطنى، فى سبيل الحفاظ على قيمة أموالهم، وذلك من خلال المضاربة فى العقارات، كأحد الاستثمارات الآمنة، أو شراء الذهب، الأمر الذى يُفقد الاقتصاد المصرى فرص استغلال هذه المدخرات فى القطاعات الإنتاجية، خاصة أن مصر تستهدف وصول معدل النمو إلى 12% ومعدل استثمار إلى 30% بحلول 2030، فى ظل وصول معدلات الادخار حالياً إلى 7.4% فقط.
عمرو سليمان: القطاع غير الرسمى وضعف البنية التكنولوجية يعرقلان طموحات المرحلة القادمة.. والحكومة مطالبة بوضع خطة معالجة عاجلة
وتؤكد المؤشرات أن الاقتصاد المصرى ما زال يعانى من فجوة الموارد بشكل كبير، وذلك فى ظل جهود الحكومة لخفضها، حتى وصلت إلى -7.2% من الناتج المحلى الإجمالى خلال الربع الأول من 2018/ 2019، مقارنة بـ(-9.2%)، خلال الفترة نفسها من 2017/ 2018، لذا على الحكومة أن تبذل المزيد من الجهود لتقليص هذه الفجوة بشكل آمن، سواء من خلال رفع الادخار المحلى وتوجيهه للمشروعات الإنتاجية، وهو ما يمثل الاختيار الأمثل والأسرع والأكثر أماناً، أو من خلال جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة للسوق المحلية، التى قد تواجه صعوبات، فى ظل توقعات بتباطؤ النمو العالمى خلال السنوات القادمة.
وحذّر الخبراء من اتباع الأساليب الأقل كفاءة فى تمويل الفجوة، مثل الاقتراض الخارجى أو المحلى، الذى من شأنه زيادة تكلفة أعباء الدين بشكل كبير، وبالتالى تأثر التصنيفات الائتمانية للدولة بالسلب.
من جانبه، عقّب محمود محيى الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولى، بأنه رغم تمكّن بعض الدول التى تملك متوسطات دخول مماثلة لمصر من زيادة مدخراتها، فإن معدلات الادخار فى مصر منخفضة بشكل كبير، مشيراً إلى أن مسبّبات انخفاض الادخار لا تكمن فى العادات الاستهلاكية لدى الأفراد، لكنها ترجع بالأساس إلى ضعف الثقافة الادخارية للأفراد، مشدداً على أهمية تحفيز الثقافة الادخارية لدى الأفراد من خلال مناهج دراسية توضح أهمية ومكاسب الادخار، فضلاً عن ضرورة إطلاق أوعية ادخارية مخصّصة للأطفال دون 16 عاماً، وهو ما قامت به ألمانيا واليابان، وأثمر عن زيادة كبيرة فى معدلات الادخار لديهما.
وتابع أنه من الضرورى غزو محافظات وقرى صعيد مصر بالثقافة الادخارية، للحد من الاكتناز السلبى، وتوجيه الأموال إلى استثمارات غير منتجة كالمضاربة فى أسعار الأراضى، بما يتجاوز عوائدها الحقيقية، وذلك فى إطار استهداف تنمية ادخار القطاع العائلى الذى يمثل الجزء الأكبر، من إجمالى معدلات الادخار، فى ظل محدودية ادخار القطاع الحكومى والخاص.
وأوضح أنه لزيادة المدخرات لا بد من ابتكار سُبل تمويلية جديدة كإطلاق الصناديق السيادية، التى بدأت مصر تدشينها خلال الأشهر القليلة الماضية لإدارة المحافظ للأصول المالية والاقتصادية المستغلة وغير المستغلة للدولة، وهو ما حقق نجاحاً كبيراً فى بعض الدول، مثل ماليزيا وأيرلندا.
فيما قال الدكتور عمرو سليمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة حلوان، إن الأزمة تكمن فى أن زيادة معدلات الادخار لا تضاهى حجم الزيادة فى الناتج المحلى الإجمالى، مشيراً إلى أن وصول معدل الادخار فى الصين إلى 50% أدى إلى مضاعفة الدخل القومى 10 مرات، منوهاً بأن معظم الدول النامية لا تقل مدخراتها عن 25%، مقارنة بـ7% فى مصر، وهو ما يوضح حجم الفجوة التى تحتاج مصر إلى تقليصها.
وأوضح أن انخفاض معدلات الادخار بحاجة إلى تغيير ثقافى كبير لدى كل القطاعات، الحكومى والخاص والعائلى، خاصة أن الادخار يقوم بتمويل الاستثمارات التى بدورها تدفع عجلة التنمية، وهو ما يعنى أن مصر ستظل دولة استهلاكية إذا استمر وضع الادخار منخفضاً، مشدّداً على ضرورة نشر الوعى المالى من خلال وسائل الإعلام والمناهج الدراسية.
وأشار إلى أن هناك بعض المعوقات التى تحول بين زيادة معدلات الادخار، التى يتمثل أبرزها فى الاقتصاد غير الرسمى، الذى يحرم نحو 60% من الاقتصاد المصرى من التعامل مع القطاع المصرفى، وبالتالى تفقد الدولة معدلات هائلة من الادخار، فضلاً عن ضعف البنية التكنولوجية التى تُعرقل توجّهات الدولة فى التحول إلى مجتمع لا نقدى، لتصبح جميع الموارد المالية داخل القطاع المصرفى بما يمكنه من استغلالها فى تدشين المشروعات.