اللهم إني صائم.. «الحسين»: فى الساحة سجاد صلا وقناديل.. والعطفة متعطرة بالمسك والترتيل.. كرامة لابن بنت النبى
شوارع الجمالية تزدحم بالسائحين
تحت أشعة الشمس الحارقة التى ولدّت دوامات من الحر الخانق، احتمى المارة بميدان «الحسين» برقع الظلال الشحيحة فى الأزقة والممرات المنبثقة منه، وخلا الميدان سوى من الأجانب، الذين اجتاحوا المشهد بشكل لافت، فكثافتهم وانتشارهم كان متزايداً مع مرور الساعات، واحتل بعضهم الكراسى الشاغرة المرصوصة أمام المطاعم المطلة على مسجد الحسين، والبعض الآخر اصطف مستنداً إلى سور الحديقة التى تتوسط الميدان، أما الباقى فظل متجولاً بكاميرته الاحترافية أو الهاتفية، ينظر إلى مبنى المسجد مندهشاً ويلتقط الصور الفوتوغرافية بشكل متكرر.
تتناهى إلى مسامع المار من هناك عبارات مختلفة بكل لغات العالم، فالوفود الموجودة آتية من مختلف البلدان والثقافات، أينما تولِّ وجهك تجد زواراً أجانب، فذلك وفد أفراده ذوو ملامح صينية، على بعد خطوات منهم تجد أسرة مكونة من أب وأم وثلاثة أولاد يرتدون تيشرتات مرسوماً عليها علم فرنسا، وعلى كراسى مطعم مقابل تجد ثلاث سيدات يرتدين السارى الهندى، ويتوالى الزوار بمختلف جنسياتهم على مدار الساعة.
ينتصب مسجد الحسين بقبته الشاهقة وبواباته العالية تسمح بمرور العشرات داخلين إليه وخارجين منه، أمام مدخله يرتكز عدد من المواطنين على كراسى متحركة مقسمين أنفسهم إلى صفين، مترقبين من المارة أى مساعدات مادية أو تبرعات، وينتشر نظائرهم فى أماكن متفرقة من الميدان. ينتشر الباعة المتجولون بمحيط الميدان حاملين على أكتافهم بضائعهم المختلفة، فى حضور لافت للأطفال، فهناك من يبيع السبح والسلاسل وبجواره بائعة «البراقع» بألوانها الزاهية، ويتجول فى الميدان طفل يحمل بيديه حاملاً تتفرع منه عشرات «البالونات» بألوان مختلفة لافتة وسط الميدان، يطلب منه السياح التصوير ممسكين بها.
فى ممر ضيق بجوار المسجد يفضى إلى عشرات «البازارات» المتجاورة التى تعرض حُليّاً وتماثيل تتخذ الأشكال الفرعونية والمصليات والسبح، تتفرع الممرات وتتشعب، ثم يبرز محل يضم مقتنيات نحاسية أشبه بكرات النار، يعرض أشكالاً بيضاوية مصنوعة من نحاس ومفرغة بشكل منظم بحيث يتسلل الضوء من داخلها بشكل ساحر، تتراص بجوار بعضها تبعاً لأحجامها المتفاوتة بشكل يعكس إتقان وحرفية صانعيها. المشغولات الذهبية والفضية تحتل مساحة كبيرة من المحلات التجارية المنتشرة حول الحسين، ويحرص التجار على نثر روائح البخور الجميلة فى الممرات الضيقة، مما يساعد على نشر جو عام رائع، يحتشد السياح فى تلك الممرات، فرادى أحياناً وثنائيات فى أحيان أخرى، أو فى هيئة مجموعة يتقدمها مرشد سياحى يصف لهم كل ما يشاهدونه بلغتهم الأم. أحد تلك الوفود تعثرت فى «بائع خبز»، شاب دون الـ20 عاماً، يحمل فوق رأسه قفصاً ضخماً مرصوصاً فوقه عشرات الحقائب البلاستيكية التى تحوى أرغفة خبز ساخن طازج، التفوا حوله، وأخذوا يتجاذبون معه أطراف الحديث، والمرشد المصاحب لهم يساعد فى ترجمة الحوار بالعربية، كانوا مهتمين بعمله وسنه وظروف معيشته، وبعدها بدأوا يتناوبون على التقاط الصور التذكارية معه، لكنه رد مشترطاً مبلغ 10 دولارات مقابل الصورة الواحدة، عبس وجه بعض الأشخاص، لكن رغم ذلك أقبل بعضهم على التقاط الصورة بصرف النظر عن المقابل المادى أو استغلال الموقف من قِبله. بجوار الميدان، يفضى أحد الشوارع الضيقة إلى سوق خضار، حضرت البضائع وغاب الزبائن عنها، رقدت حبات الخضراوات المختلفة فوق طاولات عالية فى انتظار الزبون الذى لم يحضر مع حرارة جو شديدة فى نهار رمضانى، خلا الممر من حركة المارة سوى من القطط النشطة التى تبحث عن بقايا تلتهمها، سكون تام يسيطر على السوق سوى من صوت تأتأة قادم من الداخل، لصاحب القميص البنى والبنطلون الجينز الذى يتعثر أثناء قراءته للقرآن، يواجه صعوبة فى الانتقال بين الكلمات، مقرباً كتاب الله من وجهه، يعافر بصبر وأناة فى النطق الصحيح ولا تنتقل عيناه من فوق كلمة إلا بعد أن يطمئن قلبه أن لسانه نطقها بالتشكيل والتجويد الصحيح.
يتجول أحد السياح بشعره الأشعث وملامحه الأجنبية، كاميرته مدلاة على صدره، يلتقط صوراً تذكارية لكل ما يعجبه من مشاهد، رأى سيدة مصرية تجلس أمام فرشتها تبيع خضراوات وتمتاز بجمال ضحكتها وخفة طلتها بربطة إيشارب مميزة تنبئ عن جنسيتها المصرية، طلب منها أن يلتقط لها صورة وهى تضحك، لترد الأخيرة: «هتقبضنى؟»، فقال السائح بضحكة ساخرة: «نو، ثانكيو». بعد قضاء صلاة العصر، تبدأ الحركة تدب فى الميدان والشوارع المحيطة به، المطاعم تتسابق فى رص كراسيها وطاولاتها، وكذلك عربات الأطعمة المتحركة، تبدأ فى التحضير والتجهيز، وإشعال المواقد وتسخين الفحم، ويبدأ العاملون عليها عادة بتجهيز السلطات الخضراء، حيث تتراص عشرات الأطباق الصغيرة ويعبئها العامل من «قِدرة» فول بجواره مملوءة بالسلطة الخضراء.
مع مرور الدقائق، تسيطر الزجاجات البلاستيكية على المشهد، مملوءة بعصائر ذات ألوان مختلفة، تفوح منها روائح التمر والعرقسوس فى المقام الأول. ومع اقتراب موعد مغيب الشمس، بدأت الأسر المصرية تتوافد مفترشين رصيف الجنينة المقابلة للمسجد وساحة الميدان، بعضهم جاء بقصد حجز مكانه على موائد الرحمن التى تنصب هناك يومياً بشكل كثيف، والبعض الآخر أتى حاملاً طعامه فى عشرات الحقائب البلاستيكية، فالغرض من الزيارة هو الإفطار فى رحاب مسجد الحسين مع أفراد العائلة، ويسيطر الهدوء والسكون على الأجواء إلى أن شق الصمت صوت تباع أحد المطاعم المطلة على الميدان، وهو يجوبه متعقباً المارة، وصارخاً فى وجوههم عند رفضهم دخول المطعم، قائلاً: «يارب ابعت».