السطور التالية حقيقية.. حدثت واقعياً قبل سنوات قليلة وإن كانت الضرورة تقتضى حجب بعض الأحداث لاتصالها بمن لا يحبون الحديث عنهم.
كأى دارس بكلية الحقوق كانت تطلعاته تتراوح بين التفوق والصعود إلى دوائر التدريس الجامعى أو التفوق أيضاً والالتحاق بالسلك القضائى.. كلاهما غير متاح دون شروط أخرى غير التفوق.. لا يتبقى إلا أحلام المكتب الكبير والشهرة التى تؤدى إلى «زبائن» جدد وأموال كثيرة.. ليس أقل من أحمد الخواجة وعبدالعظيم المغربى وعبدالعزيز محمد وسامح عاشور وشوقى السيد وكثيرين حققوا وجوداً مهنياً كبيراً ومن خلفه وبسببه حضوراً اجتماعياً طاغياً!
ويقفز السؤال.. ومن أين الأموال؟ إن تدبير مصاريف الجامعة يتم بشق الأنفس والتفاصيل مؤلمة وأحياناً جارحة.. وهنا تأتى الإجابة السريعة.. فقدراته الذهنية والخطابية تجد من يقدرها بعد أن راقبها طويلاً.. وقبل أن تنتهى السنة النهائية كانت حبال جماعة الإخوان قد التفت حوله.. فلا ينقصه شىء.. هو ملتزم دينياً وهو شرط أولى لمن يعتقد أنه لكى يخدم دينه عليه الانضمام لمن يعتقد أنهم دعاة الإسلام وحماته والمدافعون عنه.. وهو صاحب طموحات واسعة وتطلعات مشروعة وقدرات شخصية لافتة!
هناك فى حى إمبابة الشعبى الشهير.. حى الناس الطيبين وأولاد البلد كانت الصفقة.. اللعبة مع الدولة على أشدها.. مباراة كاملة الأوصاف وليست معركة حاسمة يخوضها النظام الحاكم.. وفى المباراة دفاع ضاغط وهجمات متبادلة وهجمات مرتدة ووسط كل ذلك كانت ورقة المعتقلين على ذمة قضايا «الإخوان» تتزايد، وهؤلاء لا يمكن لجماعتهم أن تتركهم كما لا يمكن أن تتعامل الجماعة بشكل مباشر معهم ولا حتى التعامل معهم مركزياً.. وفى إمبابة وقع الاختيار عليه.. وها هو المكتب جاهز للعمل.. بفرشه ومصاريفه بل وطبعاً بزبائنه.. ليس عليه أن يقدم إلا فروض الولاء والطاعة ومعها الوجود بين الناس يقدم صورة «الإخوان» كما يريدون توصيلها.. الخدوم البشوش التقى الورع.. هذه كانت «عدة الشغل» كما حددها قيادات «الجماعة»! مرت الأيام وصار مكتبه مقصداً لكل معتقلى الجماعة ومعتقلى الجماعات الحليفة.. تكاليف الدعاوى ومصاريفها وإجراءاتها كلها مدفوعة.. وتخصص هو فى هذا النوع من القضايا، عاش به وعاش منه وعاش له.. وفجأة تطلب منه الجماعة الترشح لانتخابات نقابة المحامين بالجيزة.. ويسألهم: «لسه بنقول يا هادى.. كيف يمكن أن ننجح فى معركة كبيرة كتلك؟»، ويأتى الرد الحاسم «اسمع الكلام ولا تجادل»! كانت الترتيبات تتم فى مكتب «المهنيين» داخل الجماعة وتم وضعه فى القائمة «الإخوانية»، التى فازت فعلاً فى ظل كتلة تخوض المعارك متحدة ولها هدف واحد وشعارات واحدة وقائد واحد، فى مواجهة أغلبية مشتتة، لها ألف شعار وألف قائد وألف هدف!
لم تكتف الجماعة بفوزه بل تم تصعيده داخل هيئة المكتب وأصبح وكيلاً لنقابة المحامين بالجيزة، وتتصاعد الأحلام وتتسع ثم تتصاعد وتتسع، ولم يكن يعرف ولا أحد يعرف أنها فى لحظة سوداء ستتحول إلى كابوس!
كانت أنشطة الجماعة كلها فى مجدها.. فمنذ الإفراج عن الجماعة وأعمالها وتسلمت مهامها فى أوائل السبعينات لم تواجه أى حسم حقيقى إلا بعد 30 يونيو.. وكان من بين الأنشطة اجتماعات أسر الأخوات.. زوجته بالطبع من بينهن فى أحد الاجتماعات.. وفى مناقشة عادية طلبت الكلمة، واعتقدت أن التعبير عن الرأى متاح وانتقدت المرشد العام مصطفى مشهور! وفجأة تكهرب الاجتماع وتغير لونه وحالته ولون وحال المجتمعات، اللاتى بذلن ما فى وسعهن للرد عليها لأنهن أكثر خبرة ويعرفن نتيجة ما حدث!
بعد ساعات كان هاتفه المحمول لا يتوقف عن الرنين ويريد أن يذهب بعيداً ليرد بعيداً عن ضجيج قاعات المحكمة.. وهناك أبلغوه باستدعاء عاجل إلى مقر الجماعة.. وفى المقر وقد طال الانتظار راح يتأمل فى الآيات القرآنية ويتوضأ ويصلى فرضاً بعد آخر، ولا يعرف من يريد مقابلته هنا وإن كان يتوقع السبب.. وبعد ساعات طويلة وقد أُنهكت أعصابه وتراكمت ظنونه استدعى إلى إحدى الغرف.. وبها جلس وكان السؤال المباشر: هل عرفت ماذا قالت زوجتك بحق فضيلة المرشد؟ قال نعم.. وقمت بتأديبها فور أن روت لى.. هى طيبة وقالت ما قالته بحسن نية.. قاطعه من يحقق معه وقال بما هو أكثر حسماً: «تأديبك لا يكفى..» وماذا يكفى؟ هكذا سأل.. والإجابة الصادمة: أن تطلقها!
لم يعرف كيف وصل إلى مكتبه.. وهل جاء ماشياً أم راكباً.. وكيف لم يرد على ما قيل له.. لا.. لقد رد.. ورفضوا.. وحاول.. ورفضوا.. لكن لا.. يمكن التوصل إلى حل.. هو يدرك عواقب رفض التعليمات.. ولن يطيقها ولكنه لا ولن يقبل ولا يتحمل أن يظلم زوجته.. ماذا فعلت ليطلقها.. وأى حكم هذا فى شرع الله.. وكيف يكون أبغض الحلال حلاً.. وعقاباً؟ وهكذا راحت الأسئلة تقصف ذهنه فتعصفه عصفاً.. وعاد إلى بيته حريصاً أن لا تلتقى عيناه بعينى زوجته!
وعبر أيام لم يترك أحداً إلا وسطه وشفعه، كان جميعهم بين متهرب من الوساطة إلى ناصح بالطاعة.. ويظهر الوجه الآخر للبدايات التى كانت سعيدة.. أُغلق المكتب فلا قضايا ولا أموال بل عقاب حتى لكل من يقترب.. ساءت الأحوال وتدهورت فى البيت.. وأسرة من زوجة وأولاد لهم متطلباتهم من الأكل والشرب والعلاج والتعليم.. وفجأة يجد نفسه أمام زائر جديد.. شرس أيضاً ولا يقل قسوة عن جماعته.. أثبتت التحاليل والأشعة أنه تسلل إلى جسده.. وبات أمام معركة إضافية لا يحتملها جسده المنهك أصلاً ولا معنوياته المتهالكة المستهلكة.. يمسك بيد ثروت الخرباوى الذى شهد على ذلك كله ومعه العائدان المحترمان من «الإخوان» مختار نوح وأحمد ربيع، وقد قدموا له ما يأمر به الدين وتدعو له الأخلاق والفطرة الإنسانية السوية دون التجارة به، ويقول فى سكرات ما قبل السكرات بيت الشعر الشهير «وظلم ذوى القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند»!
ويرحل بعدها فوزى الجزار، المحامى بإمبابة إلى دار الحق.