"بِركة الحاج"..مأوى الحجاج ومتنزه السلاطين
مسجد المتبولى
سلكها حجاج القاهرة والمقبلون من بلاد الأندلس فى طريقهم إلى بيت الله الحرام، مُمتطين دوابهم، يتجمعون بها فى انتظار موكب كسوة الكعبة كى يتقدمهم فى المسير، يقيمون بضع ليالٍ بين النخيل وبركة ماء تكونت جراء فيضان النيل، يجيئون ويذهبون بين مروجها وسواقى المياه العذبة، وحرص أمراء الحج آنذاك على تزويدها بالخانات، أى الفنادق، فما كان إلا أن اتخذت «أرض جب عميرة» بمنطقة المطرية بالقاهرة من اسم «بركة الحاج» مسمى جديداً، التصق بها حتى يومنا هذا. طقوسٌ ودفٌ وطبول، وآبار وسواقٍ وخانات ومساجد، كان أجدر أن تبقى أبد الآبدين مادياً، أو حتى فى ذاكرة الأحفاد، لكن الحظ لم يحالفها، فقد صمد معظم هذه الشواهد قروناً حتى ثلاثين عاماً مضت وبعضها كان موجوداً حتى وقت قليل، ولأن أيدى العناية لم ترعه فكان أجدر به يد الهدم والردم.
آثار دفنها الإهمال.. وذكريات حية فى العقول
تجولت «الوطن» بين أرجاء بركة الحاج، تبحث عما تبقى من أثر لرحلة قدماء الحجيج وكسوة الكعبة، وتفتش عن من لا يزالون يعرفون قيمة الاسم ومعناه، فخلا الأثر الأول سوى من قليل من نخيل كان سبباً فى اشتهار المنطقة تجارياً يوماً ما، لكنه يظهر فى خجل من خلف المنازل، وبئر قد تهدم مسجدها وبنى آخر على الطراز الحديث بعد أن كان يحمل شكلاً تراثياً فريداً، فلم يبق أثر للرحلة فى ذاكرة شباب بركة الحاج، لكن فى ذاكرة واهية، اكتنز شيوخها حكايات عن الأجداد، وفى نهاية الأمر كان هناك من بدأ يبحث عن تاريخ موطنه الذى كان يخزيه اسمه، فجذبه البحث بين مخطوطات ورسائل دكتوراه وكتب لكبار المؤرخين القدامى، تحمل تاريخاً ثرياً لمسقط رأسه، فى التاريخ الإسلامى.
على مبارك ذكرها فى كتابه: البركة بها جامع بمنارة وفى أرضها نخيل
يطلق عليها الناس، اليوم، «بركة الحاج»، حيث كان الحجاج ينزلون بها عند مسيرهم إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ويمكثون بها سبعة أيام، كما ينزلون بها عند عودتهم إلى بلادهم، وقبل تسميتها بـ«بركة الحاج»، كانت المنطقة التى تقع فى الشمال الشرقى من ضاحية المطرية، تُسمى «بركة الجب»، نسبة إلى عميرة بن جزىء من بنى القرناء باليمن، وفقاً لما جاء فى كتاب سيرة القطب الربانى إبراهيم المتبولى، بحث فى: تاريخه - تصوفه - أخلاقه، ونبذة عن بركة الحاج، والذى ذكر، أيضاً، أنه فى عام الرمادة بالحجاز، عندما بخلت السماء بالمطر وأجدبت الأرض، أمر عمر بن الخطاب، عمرو بن العاص، والى مصر، بحفر قناة تصل النيل بالبحر الأحمر لتحمل السفن المؤن والغلال من مصر إلى الحجاز، فحفر عمرو القناة من مصر القديمة، مروراً بشارع الخليج بالقاهرة، وصولاً إلى «البركة»، ومنها اتجهت إلى مكان ترعة الإسماعيلية حتى الوصول إلى السويس.
بها جامع بمنارة مبنى بالآجر، وفى أرضها نخيل كثير أحمر الثمر، وفى شرقها بنحو 200 متر جبانة فيها ساقية عذبة الماء، تسميها الأهالى ساقية شعيب، بزعم أن النبى شعيب حفرها لسقى غنمه، وجميع أهل القرية يشربون منها، وفى الشمال الشرقى عمارة طولها 30 متراً وعرضها 10 أمتار يتوسطها حوض مربع الشكل عمقه أكثر من متر وعليه قبة، وفى زاوية العمارة ساقية يملأ منها الحوض لسقى بهائم الحجاج، وعرفت باسم عمارة داوود باشا، هكذا كان وصف «بركة الحاج»، الذى جاء على لسان «على مبارك» فى كتابه «الخطط التوفيقية».
ورصدها "المقريزى": أرض منخفضة من أيام المماليك تملأها مياه الفيضان
وفى «الخطط» لـ«المقريزى»، رصد الموقع الجغرافى لـ«بركة الحاج»، حيث كانت تقع فى الجهة البحرية من القاهرة، أى شمالها على مسافة 22 كم، وبلغت مساحتها 500 فدان، بين الحسينية والخندق «الدمرداش حالياً»، وكانت أيام المماليك عبارة عن أرض منخفضة، تملؤها مياه الفيضان عن طريق الخليج الكبير، وذلك وفقاً للدكتور محمد الششتاوى فى كتابه «متنزهات القاهرة فى العصرين المملوكى والعثمانى»، وبحكم موقع «البركة» الاستراتيجى بصفتها أول وآخر محطة لمستخدمى طريق الحج والتجارة للحجاز والشام، فقد تمتعت بأهمية كبيرة فى تاريخ مصر الإسلامية، بالإضافة لكونها متنزهاً كبيراً ومضماراً للرياضة والصيد للحكام طوال التاريخ الإسلامى.
اختلفت تبعيتها الإدارية باختلاف العصر، فعُرفت فى سنة 1228 هـ باسم بركة الحاج، وفى سنة 1262 هـ باسم البركة، وفى عام 1280 هـ تم فصل كفرين من البركة، وهما كفر أبوصير وكفر داوود باشا، وتكَوْن منهما ناحية إدارية باسم كفور البركة، ثم أُلغيت الوحدة الإدارية لهذه الكفور وأصبحت توابع للبركة كما كانت فى 1892، وذلك وفقاً «للقاموس الجغرافى للبلاد المصرية من عهد القدماء المصريين إلى سنة 1945»، الذى وضعه وحققه محمد رمزى.
مؤذن جامع المتبولى يحكى عن الرجل الصالح الذى قدم من فلسطين: حفر بئر الوضوء للحجاج بمسجده وكثف زراعة النخيل لتعمير البركة
بجلباب بنى اللون وابتسامة ترحيب بزائريه فى مسجد إبراهيم المتبولى، حيث يعمل شوقى مقلد، مؤذناً للمسجد، رافعاً قطعة سجاد دائرية تم قصها يدوياً، لتكشف تحتها عن باب حديدى، يخفى أسفله بئراً عمرها أعمق من طولها، فقد مر ثمانمائة عام أو يزيد على حفرها، وكما يحكى مقلد أن الشيخ المتبولى حفرها لأغراض الوضوء بديلاً عن تنقل المُصلين بين «بركة الحج»، ومسجده، وكثف زراعة النخيل فى معظم أراضى «البركة»، كنوع من تعميرها بعد أن قَدِمَ إليها من فلسطين برسالة ربانية، رأى فيها نبى الإسلام فى المنام وفى اليقظة يأمره أن يسافر إلى أرض «البركة» كى يعمرها وتكون ملاذاً وراحة للحجاج فى طريقهم إلى بيت الله.
ويحكى مقلد لـ«الوطن» نقلاً عن أسلافه أن للنخل منافع أخرى غير أكل ثماره، فقد كان الحجيج يستظلون به ويعقلون جمالهم فيه، وعلى الرغم من أن المسجد تم هدمه واستبداله بمسجد على الطراز الحديث إلا أن البئر لا تزال موجودة، بل بماسورة خضراء وُصِّلت بها وموتور يمكن زوار المسجد الوضوء باستخدام أحد صنابير المياه الأربعة، التى يمكن أن تميزها عن غيرها بالمسجد بموقعها فى الجهة اليمنى بجانب باب دورات المياه.
من الخارج يبدو مسجد المتبولى كغيره من المساجد، فللوهلة الأولى لا يستطيع أحد أن يتعرف على اختلافه، فالبئر تتوسط القاعة الرئيسية المخصصة للرجال، وعلى نفس مستوى أرض مفروشة بسجاد المساجد الطبيعى، لا يعرف من جاء لأداء صلاته أن أسفل هذه السجادة بئر عميقة تمر فى أحد جوانبها تلك الماسورة البلاستيكية الخضراء التى توصل المياه لأربعة صنابير فقط، حرصاً من أهل القرية على تسهيل فتح البئر لزوارها، وأيضاً ملء زجاجات المياه للزائرين العطاشى والمتبركين، الذين قد يأتون من مختلف بقاع الأرض، كذلك الرجل السعودى، الذى لم ينسه مؤذن المسجد، فقد جاء من أرض زمزم كى يملأ زجاجاته من بئر بركة الحاج.
الجد خورشيد يحكى عن الذكريات: قبة مسجد المتبولى هدمت فى الثمانينات.. وبئر نبى الله شعيب بُنى على طرفها بيت ورُدِم ما تبقى منها
معروف بحكمته ويرجع إليه الصغير قبل الكبير فى حل النزاعات وطلب الاستشارات فى مختلف شئون الحياة، عبدالباسط عبدالنبى، الرجل السبعينى الشهير بـ«خورشيد»، جالساً القرفصاء فى قاعة ضيافة خصصها أسفل منزله لاستقبال كل ذى حاجة، أخذ يتذكر ما تناقله عن أجداده من تاريخ عن مسقط رأسه، مستهلاً حديثه بوصف الرحلة الشاقة التى كان يقطعها حجاج بيت الله الحرام، مستغرقين ما يزيد على 3 أشهر، متنقلين على ظهور جمالهم، بين الجبال والوديان، فما كان منهم إلا أن يجدوا مكاناً وسطاً وآمناً، لتجتمع تلك المزايا فى «بركة الحاج»، فكان يأتى إليها الحجاج من كل حدب وصوب فى القاهرة وما خلفها، ينتظرون أياماً بين أخذ قسط من الراحة يهون عليهم المشاق التالية وحتى يتجمع أكبر عدد ممكن منهم.
تحت قطعة قماش يدوية خلق قدماء الحجاج مأوى، يتكون من 4 أعواد من الخشب، يتم بسط القماش على الأخشاب لعمل خيمة يستظلون بها، تتغير وجهة الخيمة مع تغير وجهة الشمس على مدار اليوم، كان ذلك هو المشهد الذى حُفِرَ فى ذاكرة «خورشيد»، بعد أن سمعه وهو فى عمر 18 عاماً من شيوخ تخطوا التسعين، غير الذى قرأه فى كتاب «الأخلاق المتبولية» للدكتور منيع بن الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، وفق حديثه لـ«الوطن».
«قبة مسجد المتبولى وساقية المتبولى وبئر نبى الله شعيب»، هى ثلاثة أماكن تحمل الكثير من تاريخ القرية، وعاصرها خورشيد بنفسه، ليجد نفسه بين شعورين، أحدهما الحنين للذكريات والآخر التحسر على أن كل ذلك قد ذهب فى طى النسيان، فقبة المسجد تم هدمها فى الثمانينات بعد أن تصدعت جدرانه وبلغت الشقوق مسافة متر بين الحوائط، وتم تشييد مسجد المتبولى الجديد، وساقية المتبولى التى بُنى فوقها مسجد، أما ساقية نبى الله شعيب فقد بُنى على طرفها بيت ورُدِم ما تبقى منها، لتضيع ملامح شاهدة على رحلة الحجيج البرية قبل مئات القرون، «الـ3 أماكن كانوا على خط مستقيم واحد، ومع النخل كانوا أهم رموز القرية لكن للأسف محدش بيهتم بالآثار هنا.. بير مسجد المتبولى تم رفع مستواه لكن المسجد اتهد لأنه كان آيل للسقوط»، وذلك وفقاً لحديث خورشيد لـ«الوطن».
جلسات كثيرة جمعت الشيخ والشاب الأربعينى، حول مائدة قصص التاريخ، يسمعها بينهم مصطفى الجندى، لينقلها لـ«الوطن»، واصفاً «بركة الحاج» قبل قرون، بأنها كانت قرية صغيرة، بها تجمع سكنى صغير من الطوب اللبن، وتنتشر حوله بركة ماء وأراضٍ مزروعة بين نخل وأنواع النباتات، يأتى إليها الحجاج كاستراحة يتابعون بعدها رحلتهم، خروجاً من قرية بركة الحاج، حيث أقاموا أينما بركت جمالهم، فى اتجاه منزل الحج أو الدرب «كفر الباشا حالياً»، حيث كان يبدأ منها حج المصريين القريبين من القاهرة وحدودها، وهو الحج البرى الذى لم يعرفوا غيره حتى ظهور القطارات ووسائل الانتقال، فيصلون إلى السويس وسيناء على ظهور جمالهم، فلم تكن قناة السويس قد حُفرت بعد، ثم يعبرون العقبة هم وجمالهم على المراكب ليمتطوا جمالهم مرة أخرى لدخول الأردن إلى تبوك إلى مكة المكرمة.
"الجندى": التغول العمرانى قضى على المظهر الريفى البسيط والبيوت المبنية بالطوب اللبن بعد أن كانت قبلة الملوك والسلاطين فى الماضى
يحكى الجندى أن بركة الحاج، التى كانت تابعة للقليوبية حتى سبعينات القرن الماضى ثم القاهرة فيما بعد، ما هى إلا عشوائيات جديدة، قامت على حساب نخل الحجاج الذى بدأ «المتبولى» زراعته قبل 9 قرون، لتتخذ منه القرية شهرتها بسوق البلح لفترة كبيرة، فكان ذلك ما تبقى من السيرة الطيبة بعد أن حَلَّ المسجد الجديد محل الطراز القديم الذى كان أنشأه المتبولى، وبعد أن رُدمت ساقية واختفت أخرى تحت مسجد، فـ«خال الجندى» لا يرى فى قريته بما فيها منزله سوى تغول عمرانى على تاريخ الأجداد، فلم يستطيعوا أن يحافظوا على المبانى التراثية ولا على الإرث الاقتصادى، «النخلة عند الناس زمان كانت أغلى من الولد، مش بس علشان ذكرت فى القرآن لكن كمان المحصول.. الناس كانت بتأجل الجواز وتجديد البيوت لموسم البلح.. وكان ظله رحمة للحجاج من الحر».
«ولكم فى الحج منافع أخرى»، عبارة نقلها الجندى عن «خاله»، معبراً عن أن مرور الحجيج من المؤكد أنه ساهم فى تطوير المكان، وكان له بركاته التى ينعمون بها حتى الآن، فالقرية كبيرة الحجم لا تزال البنية التحتية تبنى فيها بالجهود الذاتية لأبنائها، بين مدارس ومعاهد للتعليم الأزهرى وشبكات للصرف الصحى، وكان ذلك ما اتفق معه فيه عمار زبادى، أحد شباب القرية هو الآخر، الذى بدأ مؤخراً يحث الخُطى نحو تعريف شباب القرية بتاريخها من خلال النشر على مجموعة كان قد أنشأها على موقع التواصل الافتراضى «فيس بوك».
بعد قراءة 130 مرجعاً عنها، تحولت «البركة» من كلمة ينطقها صابر القاضى، أستاذ اللغة العربية، على استحياء إلى فخر، يجلس محاطاً بمكتبة عامرة بالمراجع وأمهات الكتب، لا يعتمد على ذاكرته أو قصص تناقلتها الأجيال، بل يسرد تاريخ المنطقة التى ولد وعاش فيها، يتبع كل معلومة بمصدرها، حيث تحولت المنطقة التى كان يذكر اسمها على استحياء فى شبابه المبكر إلى وطن يعشقه ويفخر بانتمائه له لما يزخر به من تاريخ.
روى «القاضى» لـ«الوطن»، ما ساقته الكتب عن «بركة الحاج»، فذُكرت لأول مرة فى كتاب المسالك والممالك، أقدم الكتب التى تكلمت لابن خرداذبة المتوفى فى نحو 182 هـ، فامتدت، منطقة «بركة الحاج»، قديماً، فيما بين المنطقة من عين شمس إلى السلام، شاملة المرج وكفر الشرفاء وكفر الباشا فيما يسمى بـ«أرض البركة»، فكانت تمثل شرق القاهرة، ولكن، بعد التقسيمات الإدارية، أصبحت تشغل جزءاً صغيراً من المرج كما هى، اليوم، وفقاً لما جاء فى كتاب القاموس الجغرافى للبلاد المصرية.
ولم يكن «بركة الحاج»، الاسم الأول للمنطقة، وفقاً لأستاذ اللغة العربية، حيث كان أقدم اسم لها، «أرض الجب»، فكان يُقال «أرض جب عميرة»، وهو عميرة بن جزىء من بنى القرناء باليمن، الذى يرجح تاريخياً، أن يكون دخل مصر مع عمرو بن العاص، أثناء الفتح الإسلامى فى 21 هـ أو بعد الفتح بقليل، وفى رواية أخرى قيل إنها «أرض جب يوسف»، وهو ما كذَّبه المقريزى، ولكن لا يوجد دليل يؤكد أو ينفى، حيث عاش يوسف فى مصر واهتم بالزراعة، ومن المعروف أن أرض بركة الحاج أرض خصبة منذ القدم، فمن الممكن أن يكون يوسف قد أقام فيها وأمر بحفر الجب، وهى ساقية نبى الله شعيب التى كانت قائمة، بالمنطقة إلى وقت قريب.
وفسر «القاضى» الاسم الحالى للمنطقة، اسم «بركة الحاج» إلى شقين، «بركة» لأن أرض المنطقة جغرافياً منخفضة عن الأراضى المحيطة بها، فكانت تمتلئ فى زمن الفيضان بماء النيل فتصبح بركة، ووجود معابد للفراعنة بالمنطقة الأثرية بـ«عين شمس» و«المطرية»، يعد خير دليل على وجود مسطح مائى بمنطقة «بركة الحاج»، حيث حرص الفراعنة على بناء معابدهم بالقرب من المسطحات المائية.
وواصل القاضى حديثه، بأن «الحاج» اشتقت من كون البركة أول محطة، فى العصر المملوكى، على درب الحج المصرى القديم، وكان السفر برياً فى رحلة طويلة، فأولى سلاطين المماليك درب الحج اهتماماً كبيراً، بتعيين أمير للحج، يجوب أنحاء مصر، فى شهر شوال، من كل عام هجرى، وينادى بأن من أراد أن يذهب إلى الحج فليتجهز، وبشكل مواز تزف كسوة الكعبة التى كانت تصنع فى مصر، آنذاك، من مقر الخلافة بقلعة الجبل حتى النزول بها إلى بركة الحاج.
وبدأت رحلة الحج، فى عصر المماليك، بتوافد الحجيج إلى أرض البركة، مُقيمين موكب الكسوة، ثلاثة أو أربعة أيام حتى يكتمل وفد الحجيج، المكون من حجاج مصر، من أسوان وحتى القاهرة، وحجاج الشمال الأفريقى، وحجاج إسبانبا «الأندلس قديماً»، وكانت أرض البركة معدة لاستقبال وفود الحجاج، حيث جهزها المماليك بما يسمى «الخانات»، أى «الفنادق»، لتستقبل الحجاج وقت إقامتهم قبل بدء رحلة الحج، كما توافر بها الطعام والشراب والدواب، علاوة على خصوبة أرضها وصحة ماشيتها، حتى قال «المقريزى»، إنه كان هناك نوع من الخراف تتم تربيته بأرض البركة ويعلف من حب القطن حتى يبلغ غاية من السمن فتعجز عن المشى وتنقل إلى القاهرة محمولة على العَجل، ويقال عنه كبش «بركاوى»، كما كانت البركة مجهزة بأماكن معدة لإيواء دواب الحجاج، تدعى العمارة، ووصفها على مبارك بالأبعاد، مجهزة بأحواض من المياه لإيواء هذه الدواب، فكان موسم الحج، من كل عام، إيذاناً ببدء رواج التجارة والانتعاش الاقتصادى بالمنطقة، وفقاً للقاضى.
وبعد أن يتزودوا بما يكفيهم من الطعام والشراب حتى الوصول إلى الأراضى المقدسة أو حتى بلوغ المحطة المقبلة التى يمكنهم فيها التزود بطعام جيد وماء عذب، حيث عمّر سلاطين المماليك القلاع الواقعة على الطريق بالزاد والغلال، ما يعين الحجيج على مواصلة الطريق وعدم حمل ما لا طاقة لهم بحمله من الطعام والشراب، تنطلق قافلة الحجاج، التى كانت من الضخامة بأن بلغ عدد الجمال فيها فى أحد الأعوام 80 ألفاً، بقيادة أمير الحج ومعهم عدد كبير من الجنود يحيطون بالقافلة من كل جانب لحمايتها، ومسئولون عن الأضواء ليلاً يحملون مشاعل للإنارة ومعهم طبول ونفير ليعلموا الناس بأى منطقة يمرون بها أن هذه القافلة قافلة الحجاج.
وفى طريقهم إلى أرض الحجاز، كانت قافلة الحجاج تمر بالصحراء الشرقية بأكملها وصحراء سيناء وصحراء شبه الجزيرة العربية، حيث تنطلق رحلة الحج فى اتجاه بلبيس، إلى السويس ثم يقطعون سيناء كاملة والعقبة، التى تدعى «أيلة»، حيث ينقسم الطريق فى أراضى الحجاز بشبه الجزيرة العربية، إلى طريقين، أحدهما مواز للساحل، والآخر إلى الداخل قليلاً، فيؤدى الطريق الموازى للساحل إلى مكة مباشرة، بينما يمر سالكو الطريق الموازى للساحل بالمدينة المنورة أولاً ومنها إلى مكة.
كانت القافلة تتطور كل عام، للوفاء بحاجة الحجاج وضمان أمنهم وأمانهم، فاصطحبوا المدافع فى بعض حقب العصر المملوكى للدفاع عن أنفسهم، واصطحبوا الأطباء والجراحين لإسعاف المرضى فى حوادث الطريق من سقوط أحد الحجاج من أعلى ناقته وإصابات البعض الآخر، ما يجعلهم يحتاجون لفريق طبى كامل مجهز بالأدوية التى يحتاجونها فى طريقهم.
وتوقف توافد الحجاج إلى المنطقة، عندما استولى الصليبيون على مدينة «أيلة»، التى كانت تقع على طريق الحج المصرى القديم، حيث قُطع الطريق على الحجاج المصريين وكل حجاج شمال أفريقيا، فكان البديل الذهاب عن طريق النيل، وهو ما استمر سنوات حتى جاء الظاهر بيبرس وحرر مدينة أيلة من أيدى الصليبيين وأعاد درب الحج المصرى القديم مرة أخرى إلى سابق عهده، وهو ما تبعته إسهامات شجرة الدر فى تمهيد الطريق وحفر الآبار بطوله لضمان سلامة وصول الحجاج، حتى توقف سلوك الحجاج هذا الطريق فى العصر الحديث، فى عصر أسرة محمد على، تحديداً، حيث بدأ استخدام السكك الحديدية ولم يعد هذا الطريق الوحيد المؤدى للأراضى المقدسة.
وفى غير الحج، كانت المنطقة متنزهاً للأمراء والسلاطين، فكانت الطيور المهاجرة من أوروبا إلى أفريقيا تزورها، أحياناً، وفقاً لما جاء فى كتاب «متنزهات القاهرة فى العصر العثمانى» للدكتور محمد الششتاوى، حيث أدرجها ضمن المتنزهات، فنزل فيها صلاح الدين وغيره من الأمراء للصيد والاستراحة قبل العودة إلى مقر الخلافة، كما ذكر المقريزى، فى كتابه المواعظ والاعتبار، فى 722 هـ، أن السلطان محمد بن قلاوون ركب إلى بركة الحاج للرمى على الكراكى، أى ليصطاد طيور الكراكى من البركة، وأمر أن تقام فيها أحواش للخيول وميدان لنتاج الخيل، استمر الملوك على هذه العادة إلى وقت المقريزى.