المشكلة الأكبر التى تواجه مهنة الطب هى أن الدراسة بها لا تنتهى إلا بالموت.. تلك هى الحقيقة التى أدركتها فى يومى الأول بتلك الكلية العظيمة.. والتى يدركها كل من قرر أن يقتحم هذا المجال الذى يتصف بالرحمة على المرضى.. إلا أنه شديد القسوة على من يعمل به..!
الأمر لا يتعلق بالرغبة فى التعلم أو المعرفة.. وإنما هو ضرورى لاستمرار الطبيب فى العمل.. فطبيعة المهنة متغيرة ومتطورة بدرجة تجعل الطبيب الذى لن يتابع الجديد الذى يحدث بها سيصبح خارج الزمن نفسه!
كل ما سبق يجعل الدراسات العليا فى مهنة الطب تحديداً ليست رفاهية من أى نوع.. ويجعل استمرار الطبيب فى الدراسة للحصول على شهادة كالزمالة أو الماجستير أمراً بديهياً.. ومساراً محتوماً إن أراد امتهان الطب من الأساس!
الإشكالية التى يقع فيها الطبيب فى معظم الأحيان هى الجمع بين دراسته العليا -الضرورية له- وبين الحفاظ على الحد الأدنى من الدخل الذى يمكنه من توفير حياة كريمة له ولأسرته التى يزمع تكوينها.. وتحقيق التوازن الزمنى بينهما.. فترى البعض يقرر التضحية بالتسجيل للزمالة ليستمر فى عمله فى الريف والذى يدر عليه دخلاً لن يناله إن قرر الالتحاق بالبرنامج فى أحد المستشفيات المعتمدة.. وترى آخرين يقررون التسجيل للزمالة معتمدين على العمل فى القطاع الخاص بجوار عملهم الحكومى ليتمكنوا من الاستمرار..!
الخيارات كلها كانت تعتمد على التضحية بشىء ما فى سبيل الآخر.. والنتيجة أن حياة الطبيب الشاب تتحول إلى معركة بقاء وتوازن لا تنتهى أبداً..!
ربما كان كل ما سبق- بالإضافة إلى العجز الواضح فى أعداد الأطباء بالمستشفيات العامة- هو السبب الرئيسى الذى دفع وزارة الصحة إلى تعديل نظام التكليف ليصبح مقترناً بالتسجيل للحصول على الزمالة المصرية فى الوقت نفسه.. فيتم إلحاق الطبيب الشاب بأحد المستشفيات المعتمدة فى برنامج الزمالة مباشرة بمجرد تخرجه.. على أن يتم انتدابه للعمل بالوحدات الريفية لثلاثة أشهر كل عام..!
لا أنكر أن الفكرة قد أعجبتنى فى البداية.. فالتسجيل المبكر سيجعل الأطباء أكثر حرصاً على الاستمرار فى العمل بالوزارة.. وسيقضى على التسرب الذى يحدث من شباب الأطباء للعمل بالخارج.. فضلاً عن جودة التدريب الذى سيحصلون عليه فى عمر مبكر والذى سيجعلهم متساوين مع زملائهم بالجامعات.. كما أنه سيضمن دخلاً مادياً مقبولاً لشباب الأطباء يمنحهم الأمان فى سنوات دراستهم العليا.. إلا أن التدقيق فى النظام المعلن حتى الآن يجعل العديد من الأسئلة تطفو على السطح.. والتى تحتاج لإجابة سريعة إن أرادت الوزارة تطبيقه على الدفعة الحالية كما أوضح الإعلان..!
الأسئلة كلها تدور حول القدرة الاستيعابية للمستشفيات المعتمدة ومدى تحملها لعدد المتدربين بالكامل.. وموقف الإجازات الوجوبية للأطباء.. فضلاً عن تغطية العجز الذى سيظهر حتماً فى الوحدات الصحية فى سنوات التطبيق الأولى وحتى يستقر النظام..!
كل هذه الأسئلة وجهتها نقابة الأطباء لوزارة الصحة فى خطاب رسمى.. ولم يتم توضيحها من قبَل الوزارة حتى الآن..!
لقد اجتهدت الوزارة لإيجاد حل عملى لإحدى أهم الإشكاليات التى تعترض شباب الأطباء وهو أمر محمود.. ولكننى أعتقد أن عدم وجود نقاش أو تعاون بينها وبين النقابة.. والتسرع الواضح فى الإعلان عن النظام لتطبيقه على الدفعة الحالية سيخلق العديد من المشكلات التى سيعانى منها الأطباء.. والتى ستجعله محل جدل لفترة طويلة..!
أعتقد أن اقتراحاً بتأجيل تطبيق النظام الجديد حتى تتم دراسته بشكل أكثر دقة قد يكون مفيداً لجميع الأطراف.. فالتسرع لن يفيد أحداً.. أو هكذا أعتقد!