كثيراً ما تلعب المصادفات من حيث التزامن العفوى دوراً مهماً فى ضبط حركة الأحداث الكبرى. نحن الآن قبل أسبوع واحد من انعقاد القمة الخليجية الأربعين فى «الرياض»، ونظرياً سوف تشارك قطر فى القمة، رغم أن موقف «الرياض» معروف ومعلن، وخلاصته أنها تقاطع قطر لأن الأخيرة لم تفِ بأى من بنود «اتفاق الرياض»، الموقع فى أبريل 2014، والذى يتضمن عدة التزامات كانت قطر وافقت عليها، أهمها عدم دعم الجماعات الإرهابية بأى شكل من الأشكال ووقف الحملات الإعلامية المعادية للدول الأخرى. لكن بعض التطورات العارضة أثارت تساؤلاً كبيراً حول إمكانية تخلى دول المقاطعة الخليجية الثلاث عن مواقفها مقابل المصالحة فى القمة الخليجية المقبلة، من بين هذه التطورات قرار كل من السعودية والإمارات والبحرين المشاركة فى الدورة الخليجية لكرة القدم التى تدور منافساتها بالفعل منذ 26 نوفمبر الماضى فى قطر، والتطور الثانى ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية نقلاً عن دبلوماسى عربى بأن وزير الخارجية القطرى زار «الرياض» سراً وعرض التخلى عن جماعة الإخوان الإرهابية مقابل وقف المقاطعة.
إضافة إلى ما سبق هناك المسعى الأمريكى بشأن تكوين قوة بحرية ذات طابع دولى لحماية أمن الملاحة فى مياه الخليج وبحر عدن وباب المندب وجنوب البحر الأحمر، والذى تشارك فيه السعودية والإمارات والبحرين، إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، ويتحدد هدفه الرئيسى فى التعامل مع التهديدات وليس تهديد أطراف أخرى، خاصة التهديدات الإيرانية أو من أى من توابعها فى الإقليم كجماعة أنصار الله الحوثية فى اليمن أو الحشد الشعبى فى العراق أو حزب الله اللبنانى.
ودلالة هذا المسعى الأمريكى تبرز فى ضوء حقيقة أن قطر لم تشارك فيه بعد، بالرغم من علاقاتها المتميزة مع الجانب الأمريكى، نظراً لموقفها الخاص والمنفتح تجاه إيران والذى يتعارض من حيث الجوهر مع سياسة الولايات المتحدة فى ممارسة الضغط الأقصى على «طهران» حتى تغير سلوكها وتتحول إلى دولة طبيعية تلتزم بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولى، لا سيما عدم التدخل فى شئون الآخرين، والتخلى عن تهديد مصالح القوى والمجتمعات المجاورة. وجوهر الأمر أن قطر ليست مؤهلة لأن تكون على الدرجة ذاتها من اهتمامات الدول الخليجية الأخرى، لا سيما حماية حرية الملاحة الدولية ومكافحة كل أشكال التهديد.
كل هذه التطورات، ما كان حقيقياً منها، وما كان مُسرباً، يدور حول بعضه قدر من الشك، ولم يتأكد رسمياً بعد، وما كان يميل جزئياً لصالح «الدوحة» أو يتعارض تماماً مع مواقفها المتناقضة أثار تساؤلاً كبيراً حول إمكانية أن تحدث مصالحة خليجية بين بعض دول المقاطعة و«الدوحة» دون أن تكون هناك ضمانات بالتزام «الدوحة» بما يجب عليها من واجبات تخص الأمن الوطنى للدول الخليجية الثلاث مجتمعة معاً وكل على حدة فى الآن نفسه، وفى الآن نفسه دون أن يوضع فى الاعتبار مصالح الطرف الرابع فى المقاطعة؟
لاحظنا فى الأيام القليلة الماضية أن الشامتين فى مصر وشعبها هللوا لما اعتبروه تجاوزاً لمصر، وأن انتصار «الدوحة» عليها بات قاب قوسين أو أدنى، إذ ستعود إلى الحاضنة الخليجية دون أى تنازلات من جانبها للمطالب المصرية حسب رؤيتهم القاصرة. وبعيداً عن الرد على الشماتة بأخرى مثلها، نعيد التذكير بمفارقات المصادفات التاريخية ودورها فى ضبط التحليلات الخاطئة والرؤى المغرضة. ففى يوم الاثنين الماضى وأمام محكمة العدل الدولية بـ«لاهاى» وقف ممثلو الدول الأربع المقاطعة لقطر للرد على ادعاءاتها بشأن ما تعتبره حصاراً يناهض القانون الدولى، ولجوئها إلى مجلس منظمة الطيران المدنى «إيكاو»، للشكوى من قيام الدول الأربع بإجراءات حالت دون مرور الطائرات القطرية أو المسجلة فى قطر من المرور فى أجوائها السيادية، وهو الإجراء الذى تعتبره الدول الأربع المقاطعة إجراءً احترازياً مشروعاً لحماية أمنها الوطنى، نظراً للدور الذى تقوم به «الدوحة» فى توفير ملاذ لجماعة الإخوان الإرهابية، وفى التحريض على الدول الأربع، وفى الدعاية السوداء للأعمال الإرهابية وتصويرها على أنها أفعال معارضة مشروعة. ومن ثم ترفض الدول الأربع الادعاء القطرى.
ما قاله المندوبون الأربعة أمام قضاء محكمة العدل الدولية عكس توافقاً تاماً فى الرؤية، فمندوب السعودية أشار إلى أن الإجراءات التى اتخذتها الدول الأربع استهدفت بالأساس تنبيه القيادة القطرية لكى تعيد النظر فى سياساتها المنافية لأبسط قواعد القانون الدولى، وسفيرة الإمارات فى «لاهاى» أشارت إلى أن «الدوحة» لم تلتزم بـ«اتفاق الرياض»، وعمدت إلى المناورة والتحايل على تطبيق بنوده، ومندوب البحرين أعاد التذكير برعاية قطر للإرهاب وجماعاته، وممثل مصر كشف الكثير من مواقف «الدوحة» المناهضة للأمن القومى العربى، وكيف تمارس دوراً يضر بالدول الأربع ضرراً بالغاً، وإذ ذاك لم يكن أمام تلك الدول الأربع إلا اتخاذ إجراءات سيادية لحماية أمنها وبما يتفق مع حق الدفاع عن النفس ومبادئ الأمم المتحدة.
المصادفة أو توافق التوقيت دون تعمد من أحد، بين تلك التطورات التى رأى فيها البعض مقدمة لفك الترابط بين الدول الأربع المقاطعة، وبين التطورات التى تؤكد استمرار الشكوك فى أى مواقف قطرية تدعى الرغبة فى تحسين العلاقات مع الأشقاء الخليجيين، تعيد التذكير بأمرين مهمين؛ أولهما أن التوافق فى مواقف الدول الأربع المقاطعة لقطر ما زال هو الأساس، بما فى ذلك الشك الكبير فى قابلية قطر، وفقاً للمؤشرات والمواقف المعلنة، على قيامها بإعادة تأهيل نفسها بما يتفق مع أسس الأخوة الخليجية والعربية والتضامن العربى فى مواجهة التهديدات ومصادر الخطر. والثانى أن مشاركة قطر، من حيث المستوى ومن حيث الخطاب الذى ستقدم به نفسها أمام الأشقاء فى مجلس التعاون الخليجى، سيكشف إلى أى مدى هناك احتمال ولو محدوداً للغاية فى أن تقبل الدول الأربع المقاطعة لها منح «الدوحة» فرصة لمراجعة مواقفها، والبدء الجاد والملتزم بكافة بنود «اتفاق الرياض». وكلا الأمرين يعنيان أن موضوع المصالحة وإن كان موجوداً نظرياً، فإنه لا يزال يفتقر إلى الأسس السليمة لكى يصبح واقعاً. وأيضاً أن منح الفرصة لـ«الدوحة» لن يكون بلا ضمانات حقيقية تسهم فى التيقن من تغير قطر دون أى تحايل أو مراوغة كما حدث منها بعد ثلاثة أشهر فقط من توقيع «اتفاق الرياض». ويظل التساؤل مطروحاً: هل يمكن مصالحة من تظل أراضيه مرتعاً لقوة بعيدة تعمل كل ما فى وسعها لتخريب الأمن العربى واحتلال أراضى دول عربية بلا أدنى خجل؟