تفيد إشارات متتابعة أن الجهود التى تبذلها أطراف عدة من أجل إنهاء مقاطعة دول الرباعى العربى الداعى لمكافحة الإرهاب (السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر) لقطر أسفرت عن انفراجة واضحة، وأن ملف المصالحة تحلحل، ورغم صعوبات كثيرة تكتنفه، فربما نسمع قريباً عن تسوية الخلاف، ومحاولة استعادة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل يونيو 2017.
نحن نعرف أن السياسة تقتضى عدم وجود صداقات دائمة أو عداوات دائمة بقدر ما تفترض وجود مصالح دائمة، وبالتالى فنحن ندرك أنه عند نقطة معينة يمكن أن تجد دول الرباعى العربى مصلحة وتوازناً فى قرار ينهى هذه المقاطعة، دون أن يعنى هذا بالطبع أن أحد الطرفين فاز بكل شىء، وأن الطرف الآخر خسر كل شىء.
يعتقد البعض أن المقاطعة التى استمرت أكثر من عامين لم تنجح فى إدراك أى هدف، وهو اعتقاد خاطئ، فقد أثرت المقاطعة تأثيراً واضحاً فى السلوك القطرى، ورغم أن الدوحة لم تنه تماماً دعمها للإرهاب، ولم توقف بث السموم عبر ذراعها الدعائية «الجزيرة»، بهدف تقويض الاستقرار وإشاعة الفوضى فى المنطقة، فإنها مع ذلك أظهرت امتثالاً لبعض المطالب، حين وقعت اتفاقيات مع دول كبرى من أجل مراجعة سياساتها المشتبه بها، وحين أخضعت سجلاتها للتدقيق، وحين عدلت بعض قوانينها لتكون أكثر استجابة لجهود مكافحة الإرهاب.
الأهم من ذلك كله أن الدوحة عانت لأكثر من عامين من آثار المقاطعة، وباتت فى وضع المدافع، وارتبك أداؤها تحت الضغوط، وباتت أقل قدرة على إثارة المشكلات لدول الإقليم، دون أن يعنى هذا أنها أوقفت تماماً سياساتها المقوّضة للاستقرار.
وبصرف النظر عن مآلات المصالحة المنتظرة، ومع الإقرار بأنها يمكن أن تتعثر وتُرد إلى المربع الأول، فإن دراسة آثار الخلاف والمقاطعة فى الإعلام العربى، وتوقع أساليب تعاطيه مع تداعياتها فى حال حدوثها، يجب أن يكونا محل درس عميق.
سيكون من الصعب تجاهل أن أهمية الإعلام فى الإطار المجتمعى العربى تتزايد يوماً بعد يوم، وأن تلك الأهمية تنبع من عوامل عديدة، على رأسها بكل تأكيد الازدهار الكبير الذى تشهده صناعة الإعلام بشكل يبدو أوسع وأسرع وأكثر استدامة من النمو الذى تشهده معظم الصناعات العربية الأخرى.
لقد زاد عدد وسائل الإعلام العربية فى الآونة الأخيرة زيادة كبيرة ومطردة، وهى زيادة تبدو حادة أحياناً عند النظر إليها على صعيد كل قطر من أقطار المنطقة.
وبموازاة ذلك، راحت الدول العربية تتسابق على إطلاق الأقمار الاصطناعية القادرة على بث القنوات التليفزيونية، وبناء مدن إنتاج إعلامى ضخمة.
ويمكن القول إن الواقع الإعلامى العربى أظهر استيعاباً واضحاً لثورة الاتصالات، وبرهن على امتلاكه المرونة الكافية لتوفيق أوضاعه، فى محاولته لمجاراة العصر الرقمى، وتغيير أنماط أدائه، بما يتناسب مع أنماط التعرض الجديدة.
سيكون من الصعب تجاهل أن فضائيات إخبارية عربية باتت منافساً شرساً لنظيراتها الناطقة بالعربية، التى تبثها بلدان من خارج المنطقة، بحيث استطاعت تشكيل مصدر اعتماد إخبارى رئيس للمواطنين العرب، فيما يتعلق بالأخبار التى تقع فى محيط اهتمامهم الحيوى.
علينا أن نتذكر أن الأوضاع لم تكن كذلك قبل عقدين، حينما كان المواطنون العرب يضطرون إلى التعرض لوسائل إعلام غربية ناطقة باللغة العربية، عند محاولة تقصى الأخبار التى تتعلق ببلدانهم أو بلدان أخرى فى المنطقة.
تلك أخبار جيدة عن الواقع الإعلامى العربى، وهى تعكس حالة تطور حقيقية يمكن قياس أثرها على أرض الواقع، لكنّ هناك أخباراً سيئة أيضاً يجب أن نشير إليها.
فقد ظهر الإشكال الكبير حين انخرطت وسائل الإعلام العربية الكبرى فى النزاعات البينية العربية بحس سياسى خالص.
فبسبب تضارب المصالح، ونشوء النزاعات بين عدد من الدول العربية الرئيسة، فإن قابلية قطاع الإعلام لتلقى الضغوط والاستخدام السياسى المباشر من قبل الحكومات زادت.
يؤدى تحول وسائل إعلام نافذة ذات أسماء براقة إلى أدوات فى صراعات سياسية بين الحكومات العربية إلى تداعيات ضارة وخطيرة، أهمها تلاشى السمت المهنى، وتضعضع السمعة، والانقطاع عن المعايير، وفقدان المصداقية.
بدأت «الجزيرة» عصراً جديداً فى سجل الإعلام العربى، حين أصبحت لاعباً سياسياً كامل التأثير، واستطاعت سحب المنظومة الإعلامية العربية، التى أظهرت إشارات مهنية إيجابية إلى معارك دعائية تم استخدام كافة أدوات التلاعب والفبركة والتحريض والتزييف فيها للأسف الشديد.
منحت «الجزيرة» الواقع الإعلامى العربى حيوية نادرة، ورفعت سقف التنافس، وعززت المقاربات التقنية فى العمل الإعلامى، وحفزت منظومات إعلامية عربية على التطور، لكنها للأسف سخرت كل هذا لمشروع سياسى مأفون ومشبوه، وسحبت تلك المنظومات إلى صراعات ممجوجة قوّضت سمتها المهنى ودفعتها إلى أنماط أداء صارخة وحادة ومشينة فى بعض الأحيان.
كل خسارة تخسرها وسائل الإعلام التقليدية فى الفضاء العربى تتحول إلى مكسب خالص يجنيه الوافد الجديد المتجسد فى «السوشيال ميديا»، وبسبب ذلك، يمكن القول إن «السوشيال ميديا» باتت مصدر الاعتماد الرئيس للمواطنين العرب، خصوصاً فى قطاعات الشباب، رغم كل ما نعرفه عن عدم خضوعها لأى التزامات أو اتساقها مع أى آلية ضبط.
سحبت قطر الإعلام العربى إلى منازلات إعلامية حادة ومنقطعة عن المعايير المهنية، وتورطت منظومات إعلامية عربية كبرى فى تلك المنازلات، وباتت السياسات التحريرية لوسائل الإعلام التابعة للفريقين المتضادين مرتهنة للنزاع.
فى مواكبة حس المواجهة، لم تجد وسائل الإعلام العربية التى أرادت أن تغطى الشئون السياسية بقدر مناسب من الموضوعية واحترام المعايير المهنية ذرائع كافية للاستمرار على هذا النحو، بل إنها واجهت ضغوطاً أخفقت فى أحيان كثيرة فى الصمود أمامها.
فى حال تمت المصالحة، سيشاهد الجمهور العربى «الجزيرة» تتجنب إذاعة أى أخبار أو برامج تنال من سياسات دول المقاطعة الأربع، بل سيشاهد أحياناً مدحاً وتعظيماً لقادة تلك الدول على هوائها، وفى المقابل، فإن القصف الحاد العنيف من الجانب الآخر سيتوقف بالضرورة.
كيف سيبرر هؤلاء جميعاً هذا التغيير الحاد لجمهورهم؟ وهل كان بإمكان تلك الوسائل الحفاظ على حد أدنى مناسب من المعايير بعيداً عن الاستخدام السياسى والخضوع للضغوط؟