منذ سنوات ليست بعيدة، قرر صديق لنا يعمل فى دولة خليجية إنشاء جمعية خيرية، لمساعدة وكفالة الأسر الفقيرة فى قريتنا المتواضعة آنذاك، وكان الناس على بساطتهم ورزقهم المحدود يسعون إلى العمل سعياً، من باكورة الصباح حتى نهاية النهار، فلاحون وعمال وصنايعية ونساء ريفيات يعملون باليومية فى الحقول والغيطان وغيرها، يومها لم تكن هناك مشكلة أن تجد عاملاً أو عاملة للعمل فى المصانع الصغيرة أو الحقول أو البيوت، الكل يعمل من كد يده، وعرق جبينه، حامداً شاكراً راضياً. حتى جاء صاحبنا محمّلاً بأموال الصدقات والهبات والمساعدات، ترك البعض من الناس الغيطان والبيوت والمصانع ووقفوا فى طوابير الصدقات والمنح والمعونات والكفالات والاستجداء، يمدون أيديهم، وينكسون رقابهم، ويخفضون أصواتهم، ويظهرون أوجاعهم وآلامهم وإعاقاتهم دون خجل أو حياء، وتفنن البعض هذا فى كشف ما ستره الله عليهم من عيوب، ووثقوه فى أوراق ومستندات، واستعانوا بمزورين يضيفون للأصحاء منهم الأمراض، وللأغنياء منهم الفقر، وللمستورين منهم العار، وللميسورين منهم الإفلاس والحرمان، وبدلوا أحوالهم بأيديهم، وكتبوا على أنفسهم الحاجة والفقر والضنك والمرض والحرمان والمسكنة والمذلة، كل هذا ليحصلوا على المعونات دون عمل أو جهد، قلت لصديقى هذه أموالكم كارثة على هؤلاء، الناس يا صديقى إذا أدمنت التسول ومد الأيدى والحصول على المال دون جهد أو عمل، استهترت فى مصالح الناس ومصالح أولادهم، وأغفلت وتراخت فى العمل، وتواكلت وتوانت فى حقوقها، ورضيت الذل والمهانة، وفرطت فى كرامتها، هذا هو الصغار كما يقولون، وبينى وبينكم الأيام.
يا صديقى هذا حالنا الآن لا يخفى عليك، وما حذرنا منه منذ بداية رص طوابير التسول والاستجداء قد أتى ثماره، وحصدنا مراره وحنظله، وأصاب الكثير من رجالنا وعمالنا وعاملاتنا الكسل والتنطع، وأتقن منهم الكثير مهنة الشحاذة، واحترفوا مد الأيدى، وأهملوا قيمة الوقت والعمل، وأهدروا كرامتهم، وأورثوها لأولادهم دون حياء، وأضاعوا تاريخ أجدادهم فى الأصالة والشهامة والنخوة، بل وصل ببعضهم الأمر إلى الإنجاب الكثير ليكونوا أداة ووسيلة لزيادة هذا الرزق أو هذا السحت، غير مدركين أبعاد هذه التربية السيئة على أولادهم، وتزايد هذه الأعداد من المتنطعين على مستقبل الدولة المصرية، الأشد خطورة هذه العدوى التى انتقلت كالنار فى الهشيم لقطاعات عريضة حسبناها قد حصّنت نفسها من هذا المرض وهذه العدوى، بل قل ولا خجل إن الفساد والرشوة فى المصالح الحكومية أصبح هو الطريق الموازى لحرفة التسول، ومنافساً له، وتعويضاً عنه، وبديلاً لمن عفَّ نفسه قليلاً أو ضاعت الفرصة عليه، هذا هو الاقتصاد الردىء والمهين الموازى، ولو بحثت يا صديقى عن خراب ودمار ما تفضلتم به على الناس لكانت كل المصائب التى ألمت بنا، وأحاطت بالناس من وراء أموال المعونات هذه.
وما زاد الطين بللاً يا صديقى أن الدولة بجلالة قدرها قد نافستكم فى طوابير التسول والشحاذة، وأغدقت على هؤلاء من النعم الكثير، ودللت هؤلاء تدليلاً باهتاً؛ معاش السادات، معاش مبارك، تكافل وكرامة، كرامة وتكافل، كلها مسميات واحدة، وأمجاد شخصية على حساب مصلحة الوطن، وقيم العمل والواجب، حتى فوجئت فى لحظة أن زيادة نسبة السكان كارثة قومية، تلتهم كل إنجاز أو تنمية، ونظل «محلك سر» حتى نهاية العمر، «يا دوب ناكل ونشرب»، دولة تزيد فى العام الواحد دولة أخرى، الغالبية العظمى من هذه الزيادة من الفقراء والبسطاء والمهمشين، فزدنا كسلاً على كسل، وتواكلاً على تواكل، وعشوائية على عشوائية، وجهلاً ومرضاً على جهل ومرض، قل لى يا صديقى أين المفر؟
تذكر منذ اليوم الأول قلت لك، لو ذهبت هذه الأموال فى صورة مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر، كل قرية على شكلها الاقتصادى والمهنى، وعلى قدرات الناس وإمكانياتهم والمميزات الجغرافية، على هيئة قروض دون فائدة تذكر، وفترة سماح معقولة، وفتحنا أبواب العمل كل على قدر طاقته وإمكانياته، ووضعنا الأسس والنظام السليم، لدخلت هذه المليارات، التى أنفقت دون حساب، عجلة الإنتاج والاقتصاد، وحوّلنا القرية المستهلكة إلى قرية منتجة، وفتحنا مشروعات فى البيوت حتى شملت النساء كبيرات السن والمقعدات منهن؛ تربية طيور بأشكالها المختلفة، مخبوزات وصناعات بسيطة على قدر صحة الناس وقدراتهم، ومشروعات تسمين وألبان للفلاحين، وغيرها كثير، قل بالله عليك كم ملياراً أنفقته مصر فى هذا التسول وهذه المنح وهذه المساعدات من هنا ومن هناك؟ وأجيبك: مليارات المليارات، وهل استفاد الناس منها الاستفادة المثلى؟ أقول لك بكل شجاعة: لا وألف لا، هذه المليارات قد أخطأت الطريق فى الكثير، بل وضللت الأمة، وأفقدتها من تاريخها وكبريائها الكثير، بل وتعدت المصيبة قيماً أخرى، الكثير يبحث عن فرصة للهبش والنهب ويرفض العمل، ومن عمل عملاً لا يتقنه، وعزف الكثير منهم عن العمل اليدوى، وإياك أن تستبعد هذا عن ذاك، كلها حلقة واحدة، تأخذ من بعضها البعض، وتطبع على بعضها البعض، فكما النجاح معدٍ، فالفشل والتسول والتنطع والتواكل كذلك، وهو مرض اجتماعى خطير،
أعيدوا صياغة هذا الأمر، ولا يأخذ عوناً أو منحة غير المستحق فقط دون غيره، وعلموا الناس الصيد بديلاً عن التسول، سواء الدولة أو الجمعيات الخيرية، هذا الوباء الذى دمرنا دون حسيب أو رقيب، الإنتاج هو الكرامة وليس هذا التكافل.