هل فى علاقتنا ما ينكس رأسينا خجلاً أمام من أحببناه دون خوف من نار وعشقناه دون طمع فى الجنة؟
قالها وهو يحاول أن يوقف دمعة كانت قد اكتمل نموها على مهل، حتى باتت أكبر من أن تحتضنها جفونه، فسقطت غير مكترثة بمحاولاته حبسها.
لم تصدق مديرة المنزل الشابة ما ترى، لكنها قاومت دهشتها، ومنعت فضولها من أن تحرك شفتيها بسؤال، أو رأسها بإماءة قد توقف العجوز عن مواصلة الحكى.
بدا العجوز فى تلك اللحظة شخصاً آخر غير هذا الذى التقته مطلع العام.
كان الإعلان عن الوظيفة واضحاً: مطلوب فتاة لا يزيد عمرها على الثلاثين عاماً.. جميلة وأنيقة.. تجيد الإنجليزية والفرنسية ومثقفة.. للعمل مديرة منزل.
وكانت واحدة من عشرين فتاة تقدمن للفوز بالوظيفة.
لم تكن الأجمل، ولا الأكثر أناقة، لكنها كانت صاحبة حضور خاص كما قال لها، ولهذا اختارها للوظيفة، ومنحها مرتباً أعلى مما طلبت.
ياااااه.. مر عام كامل منذ التحقت بالعمل لديه، وها هى تنظر إليه، وكأنها تراه للمرة الأولى.
وضع العجوز كأس النبيذ على طاولة إلى يمينه، وقام فى هدوء، دون أن ينظر إليها وصعد إلى حجرة نومه، بينما بقيت هى مشدوهة تنظر إلى شاشة اللاب توب وتعيد قراءة ما أملاه عليها مرة تلو الأخرى.
أمضت ساعات نهار هذا اليوم وهى تفكر فى قصة العجوز، وما أملاه عليها، وهل هو جزء من قصة حياته، أم أنه ربما اكتشف موهبته فى الكتابة وهو فى هذه السن، فقرر أن يؤلف رواية أو قصة قصيرة؟
بدا الأمر مثيراً بالنسبة لها، وتمنت أن يكون العجوز هو بطل القصة التى أملى عليها جانباً منها، وفى المساء دعاها لمشاركته العشاء.
لم تكن المرة الأولى التى يطلب منها مشاركته تناول الطعام، لكنها كانت المرة الأولى التى وجدت نفسها تطيل الوقوف أمام المرآة، لتتأكد من أن كل شىء مظبوط، قبل أن تخرج إلى حجرة السفرة وتشاركه تناول العشاء على أنغام الموسيقى الكلاسيكية التى يحبها.
على عكس ما توقعت وتمنت، لم يتحدث العجوز معها أثناء تناول الطعام، حتى الأحاديث المكررة عن حبه لبيتهوفن وفاجنر، وأثرهما الكبير فى تاريخ الموسيقى، لم يكن لها وجود فى هذا العشاء، الذى مر ثقيلاً عليها، وحين انتهيا من تناول الطعام، توجه العجوز إلى مكانه الأثير قرب النافذة وأشعل سيجاراً، وسألها:
- ها هل حفظتِ ما أمليته عليك فى الصباح على جهاز اللاب توب؟
فردت: طبعاً يا فندم.
- ويا ترى حفظتيه تحت أى اسم؟
- والله يا افندم أنا حفظته باسم أول جملة حضرتك قلتها «كانت أجرأ منى».
ابتسم الرجل وقال:
- والله مش بطال الاسم، طيب تعالى علشان أنا عايز أكمل.
فتحت جهاز اللاب توب وسألته:
- حضرتك نكمل على اللى كتبناه الصبح، ولّا نفتح صفحة جديدة؟
صمت الرجل قليلاً، ثم أجاب:
- لا افتحى صفحة جديدة، واكتبى:
فى تلك الليلة الناعمة جلس ثلاثتنا على طاولة مرتفعة فى هذا المرقص الذى يؤمه كثير من أصدقائى.. استلت أهدابها وأرختها سريعاً، فانضم إلينا عبدالفتاح مصطفى: «سحب رمشه ورد الباب كحيل الأهداب، نسيت أعمل لقلبى حجاب»..
أغلقت عينيها على دمعة كانت لا تزال فى طور التكوين، فقطعت الطريق على اكتمال نموها، واقتحمنا نزار قبانى، متسائلاً: «علمنى كيف تجف الدمعة فى الأحداق؟؟».
تجاهلنا أسئلة «قبانى» حين ارتفع صوت «جارة القمر»:
«عندى ثقة فيك»، ومددت يدى سائلاً إياها الرقص، فلبّت فى رقة.. وغير بعيد عن الطاولة تعانقنا، فأبدعنا موسيقانا الخاصة ورقصنا بإيقاع يختلف عن إيقاع الراقصين.. فسكن الجميع وكأنهم قرروا أن يكونوا شهوداً على لحظة الميلاد..
ميلادها كان فى قلب تلك القرية القريبة من المدينة..
ميلادى كان فى قلب تلك المدينة البعيدة عن البحر.. لم أكتب يوماً شعراً فى البحر، فأنا أتهيب شيئين «عشق النساء وموج البحار»، ترانى سأكتب شعراً فى البحر قريباً؟
ترد هامسة فى أذنى: حبيبى لقد بدأت الكتابة بالفعل..
تعرفت على فعل الكتابة بعد تعرفها على فتاها الأول بقليل..
شبت نار الحب فى فؤادها فاستحالت حروفاً وكلمات عبرت بها حدود المتاح والمعقول والمقبول مجتمعياً.
قبلها بسنوات كان هناك من دق باب فؤادها.. أحبته إلا قليلاً، لكنه حين مس كبرياءها طوت صفحته وودعته فى أول الطريق.
لم تفعل ذلك مع فتاها الذى علمها حبه حروف الكتابة، وأجرى على لسانها الشعر والنثر، وفنون سحر البيان، فهو لم يقف على «شفا القلب»، بل اقتحمه، فدانت له، وسمحت لقواته بغزو ما كان محظوراً على الجميع، لكنه بقى فى المسافة ما بين «المشروع والممنوع»، لم يملك الجرأة الكافية لإكمال قصتهما، فقررت رغماً عنها أن تكتب فصلاً جديداً فى قصتها..
تزوجت وسكنت جبال الثلج الذى ذاب عند أول إطلالة لمن ملك فؤادها وغير بعيد عن جبال الثلج كان فصل الزواج قد اختتم بمشهد أرادت له أن يكون سعيداً.
امتلكت الجرأة للاعتراف بأنها ما زالت تحبه، أما هو فلم يمتلك الجرأة للاعتراف بأنه لم يعد يهواها.