دكتور محمد صلاح البدري يكتب عن طبيبات "حادث المنيا": منظومة اغتيال الأحلام!!
حادث أطباء المنيا
لم أكن أتصور حينما كانوا يجلسون أمامي في قاعة الدرس في تلك الكلية الإقليمية الهادئة منذ سنوات قليلة.. إنني سأضطر إلى أن أنعيهم اليوم.. لم أكن أتخيل أنني سأشهد نهاية أحلامهم ومستقبلهم بهذه الصورة أبدا..!
إنهم مجموعة من شباب الأطباء.. أكبرهم أنهى دراسته منذ أقل من ثلاثة أعوام، أعرفهم جيدا جميعا دون استثناء.. كلهم يشتركون في ذلك الحلم الذي يحلم به كل من التحق بكلية الطب منذ بدء الخليقة.. وكلهم اشتركوا في المصير نفسه الذي بات محتوما على كل من يعمل في تلك المنظومة المتهالكة التي يدعونها وزارة الصحة!!
هم أولئك الشباب الذين كانوا يملؤون الدنيا صخبا وبهجة منذ عدة سنوات، وتمتلئ أروقة الكلية العريقة بأصواتهم وأحلامهم، حتى أنك لا تملك إلا أن تبتسم حين تراهم يتناقشون بطفولية جميلة حول أحلامهم سابقة التحقيق والتجهيز.
ما زلت أذكر يوم تخرجهم.. يوم ارتدائهم ذلك الروب الأسود بفخر شديد.. ورددوا قسم الطبيب في حماسٍ غير مسبوق.. وقتها كنت أشعر بالفخر الذي يشعرون به وكأنني منهم.. وقتها أحسست أنني قدمت خدمة للإنسانية.. بأن كنت جزءا من هذا الحلم الذي يتحقق!
هم أولئك الشباب الذين ما زالوا يتلمسون خطواتهم الأولى في الحياة العملية.. الذين اكتشفوا أنه ما زال أمامهم الكثير ليصبحوا أطباء يشار إليهم بالبنان كما تمنوا.. فلم يتوقفوا عن الدراسة والتعلم والتدريب منذ أن تخرجوا.. ولم ينتهوا من تعقيدات التكليف والنيابات والتدريب الإلزامي.. لكنهم لم يعلموا أن كل هذا المسار قد ينتهي بهم وهم ينزفون دماءهم على قارعة الطريق فجرا!!
هم مجموعة من شباب الأطباء الذين أجبروا على السفر للقاهرة من مدينتهم الصعيدية لحضور تدريب جرى إقراره قبل ميعاده بيوم واحد.. والذين جرى تهديدهم بشكل واضح من قياداتهم بالنقل والتحقيق وأشد العقاب إذا لم يسافروا.. دون أن يحدد أحد السادة المسؤولين وسيلة السفر أو كيفيته.. فضلا عن رفاهية توفير وسيلة مواصلات آمنة لهم.. فقد بات الأمر أرقى بكثير من أن يحدث!!
الحادث أكثر مأساوية من أن نقضي وقتا نشرح الأسباب التي أدت لحدوثه.. فأرواح بريئة رحلت عن عالمنا دون ذنب جنته إلا أنها قبلت أن تعيش وتتعامل مع منظومة أقل ما يقال عنها أنها متهالكة حتى النخاع.. أرواح تركت كل منها خلفها حياة كاملة.. طموحات لم تتحقق.. أطفال لم تولد.. مستقبل لم يبدأ.. لكنه للأسف انتهى في لحظات!!
طبيبتان استشهدتا إحداهن عروس جديدة لم تكمل بضعة أشهر.. وطبيبة أخرى في حالة طبية حرجة.. وأكثر من 9 طبيبات أخريات مصابات بدرجات متفاوتة.. كلهن ضحية لذلك المسؤول الذي قرر بشكل مفاجئ أن يجبرهن على السفر فجرا دون تنسيق مسبق.. والأكثر بؤسًا دون داعٍ للسفر من الأساس!!
مات طلابي دون ذنب إلا أنهم حلموا بمستقبلٍ أفضل.. ماتوا لأن أحدهم لم يكلف خاطره وينسق سفرهم بشكلٍ رسمي آمن.. ماتوا دون أن يدرك أحد أن وفاتهم قتلت أهلهم وأسرهم معهم..!
فليرحمكم الله يا أبنائي.. لقد رحلتم بعد أن بصقتم على الجميع.. بعد أن كشفتم عوراتهم في بساطة وهدوء.. فليرحمكم الله ولتقبلوا اعتذاري إن كنت قد أخطأت يوماً وكنت أحد أسباب أن تحبوا هذه المهنة.. فليرحمكم الله.. ولتدعوا لنا بالرحمة من بعدكم!!