كما هو معلوم، تُعتبر التعددية السياسية الحقيقية من أهم سمات الديمقراطية، لذا كان حرص الرئيس المخلوع على أن تكون التعددية السياسية فى عهده شكلية أو فولكلورية (لزوم الشىء)، والحزب الذى يخرج عن السياق يتم تقويضه وتدميره من الداخل (والوسائل فى ذلك كثيرة ومتعددة)، ولم يكن يُسمح لأى حزب تبدو عليه أمارات الحيوية من خلال تلك اللجنة الشاذة «لجنة إنشاء الأحزاب»، حتى يبقى هو مستأسدا بالسلطة منفرداً بالحكم فى سلاسة وسهولة ويسر.. بعد ثورة 25 يناير فُتح الباب على مصراعيه أمام التيارات السياسية لتشكيل أحزاب، وقيل إن عددها وصل لأكثر من خمسين حزباً، غير القادم فى الطريق خلال الأيام المقبلة. من الواضح أن الأحزاب التى أنشئت من رحم جماعات لها تاريخها وتواصلها مع الجماهير، كالإخوان المسلمين والتيار السلفى، استطاعت أن تثبت وجودها سريعاً فى الانتخابات البرلمانية الماضية وأن تحصل على ما يزيد على 70% من المقاعد، أما الأحزاب الأخرى، القديمة منها والحديثة، فلم تحظ إلا بنصيب متواضع، وهذا بالتأكيد راجع إلى عدة عوامل، بعضها مرتبط بالأحزاب ذاتها، وبعضها الثانى له علاقة بالمناخ العام، وبعضها الثالث خاص بالفترة الزمنية المحدودة ما بين الإنشاء وخوض الانتخابات.
لا بد أن نعترف بأن العمل الحزبى فى مصر يعانى من مجموعة مشكلات.. أولها: عدم توافر التمويل اللازم، إذ بدون المال لن يستطيع الحزب أن يحصل على مقرات ولا يقيم دعاية ولا مؤتمرات جماهيرية.. إلخ، وأنا أعرف أحزاباً حال ضيق ذات اليد دون تأسيسها حتى الآن.. ثانيها: نقص أعداد الشباب المدرب، وقلة خبرته وتجربته فى التواصل مع الجماهير فى المدن والقرى والكفور والنجوع، علاوة على اكتفاء القيادات باللقاءات فى الغرف المكيفة وعبر شبكات التواصل الاجتماعى وبرامج «التوك شو» فى القنوات الفضائية.. ثالثها: عدم القدرة على مخاطبة الجماهير، خاصة فيما يخص مشكلاتها العامة والخاصة وبشكل واقعى دون تزيّد أو تهويم.. إن كثيراً من هذه الأحزاب يغيب عنها معرفة طبيعة الشعب المصرى، وطبيعة التفاوت بين المدينة والقرية، وأن لكل منطقة مشكلاتها وتحدياتها.. ورابعها: ثقافة الجماهير القائمة على اختيار الأشخاص، وليس البرامج، خاصة فى الأرياف والمدن الصغيرة حيث الاعتماد على القبليات والعصبيات.
لست مع القائلين بضرورة دمج الأحزاب المتشابهة فى المناهج والأفكار والرؤى فى أحزاب كبيرة قوية، خاصة فى هذه المرحلة.. صحيح أن الفكرة جيدة من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية لا.. هناك عوامل نفسية، وتجارب شخصية تاريخية بين بعض القيادات ربما تحول دون ذلك..هذا إضافة إلى عدم وجود وعى ونضج سياسى بين الأفراد على المستوى العام لطبيعة المرحلة وما تواجهه من تحديات.. وللأسف ما زالت الثقافة التى زرعها نظام المخلوع قائمة، حيث لا توجد لدينا ثقافة الاختلاف أو قبول الآخر، حتى وإن كان ممن يبحر معنا فى نفس القارب.. ربما من الأفضل أن يحدث نوع من التنسيق والتعاون بين الأحزاب ذات المرجعية الواحدة لخوض الانتخابات البرلمانية وفق أهداف واضحة ومحددة ومن خلال وسائل وأدوات مرتكزة على أسس وقواعد صحيحة.. ولندع التجربة نفسها هى التى تقرر.. من السهل أن تنشأ أحزاب فقط لمجرد مناهضة هذا الحزب أو ذاك، وهذه لن تستمر طويلاً، لكن من الصعب أن تبنى أحزاب لنفسها كيانات قوية لتبقى على الساحة أمداً طويلاً.