أيام بين حزن الثانية على رحيل الأولى لتلحق بها فى مشهد درامى من نوع مختلف.. لم يكن تمثيلاً ولا تأليفاً ولا من إخراج أحد.. أخرجه القدر!
السنوات الماضية شهدنا خليطاً من رحيل نجومنا الكبار وبما يمكن وصفه «الجيل الأول» مع «الجيل الثانى» من نجوم الشاشة الفضية.. خلال سنوات فقدنا فريد شوقى وشكرى سرحان وكمال الشناوى مع سعاد حسنى وتحية كاريوكا وفاتن حمامة وهند رستم وشادية مع صلاح ذو الفقار وأحمد رمزى وعمر الشريف، وفى كل رحيل ومع كل حزن على غياب أحدهم أو إحداهن كنا نطالب ويطالب غيرنا بتكريم من بقى منهم على قيد الحياة بعد أن أسعدونا بعشرات الأعمال التى أنارت طريق أجيال كاملة.. ولا ننكر أن المهرجانات السينمائية، القاهرة والإسكندرية تحديداً، كرمت أغلبهم فى لفتة طيبة وجيدة ومستحقة.. لكن فى كل الأحوال كانت رائحة الزمن الجميل باقية فى حياتنا بمن بقى منهم أو منهن على قيد الحياة، حتى قال القدر كلمته وغيب الموت آخر زهرتين فى هذا الغصن الممتد عبر الزمن.. ماجدة الصباحى ونادية لطفى!
نجمتان كبيرتان عظيمتان.. لم نعرف ولم نسمع عنهما أنهما كانتا طرفاً فى معركة عائلية أو رأيناهما فى المحاكم المصرية إلا الفنانة ماجدة مجنياً عليها دون ذنب منها.. أما نادية لطفى فكانت طرفاً دائماً فى كل ما يثير الإعجاب والاحترام.. مرة ونحن تلاميذ صغار نتابع حصار المقاومة الفلسطينية فى بيروت بلبنان بعد عدوان صهيونى غاشم وحصار للعاصمة ولقوات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الرئيس عرفات نفسه، وقد كان موجوداً هناك مع جنوده، واستمر الحصار سبعين يوماً تقريباً، وانتهى باستشهاد ما يقرب من عشرين ألفاً فى كل لبنان وألف فلسطينى فى الحصار وألفين من السوريين ومئات من المعتدين الإسرائيليين.. لكن لم يكن أحد يتخيل أن وسط هذا الجحيم والقصف المجنون الذى يستهدف إعلان التسليم أو قتل الرئيس عرفات أن يقرر مصريون الذهاب إلى هناك والهبوط فى بيروت ومنها بالسيارات إلى المعسكرات المحاصرة والبقاء بين المقاومين وتصوير الجرائم الإسرائيلية وعرضها على العالم!
عندما فتشنا فى سيرة الفنانة الكبيرة وجدناها سبقت فى المواقف الوطنية حصار بيروت بأربعة عشر عاماً كاملة فى حرب الاستنزاف ثم مع الأبطال فى أكتوبر، حيث كانت فى الجبهة مع الأبطال فى أكتوبر المجيد، وكما سجلت بطولاتنا سجلت جرائم العدو الذى لا يلتزم بأى أخلاقيات للحرب ولا يلتزم بالمعاهدات الدولية التى تخص الأسرى، ولم يجبره على الالتزام فى أكتوبر إلا أسراه لدى جيشنا العظيم، حتى حل عام 2003 لتسعى نادية لطفى لتسجيل وأرشفة جرائم نصف قرن من العدوان الإسرائيلى على بلادنا من حرب العدوان الثلاثى عام 56 إلى الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، وعرضها على الرأى العام العالمى بمعارض خاصة وعالمية أو بأى وسيلة إعلامية، لتدرك قبل ما يسمى بالربيع العربى أن مؤامرة كبيرة تستهدف بلادنا وشعوبنا بدأت ضدنا قبل سنوات طويلة!
تحصل نادية لطفى على أراض من الدولة فتسلمها لنقابة الممثلين ولزملائها، وتنضم لجمعية قديمة كان اسمها مثيراً «حماية الحمير»، لكنها شرحت فيما بعد مغزى العنوان الذى يدعو للرحمة بالحيوان وتعطى للجمعية جزءاً من وقتها ضمن نشاطها فى العمل الخيرى والأهلى فى مثال مهم للعطاء..
ماجدة التى رحلت قبلها تزوجت مرة واحدة.. تنتهى بعض الخلافات العائلية وتغلق بابها على نفسها.. كلتاهما لم تنجر لحملة تشويه عصر الستينات.. وكلتاهما كانتا من نجماته الكبيرات.. ماجدة تنتج «الحقيقة العارية» عن السد العالى، وتنتج بعده «ظهور الإسلام»، وتنتج «العمر لحظة»، ومن العناوين والموضوعات نستنتج أنها أعمال لا تحقق أرباحاً، ليس لعدم اهتمام الجمهور بموضوعاتها وإنما للتكلفة المرتفعة! لكن لم يكن الربح الهدف الأول ولا حتى الثانى للجيل الذهبى لنجومنا الكبار بل كان الدور الوطنى والاجتماعى أولاً وأخيراً!
ماجدة بطلة لفيلم تاريخى يشهد على النفوذ المصرى الناعم فى الوطن العربى وهو «جميلة»، الذى يجسد نضال الجزائريين ضد الاستعمار وللحصول على الاستقلال.. ونادية بطلة لفيلم تاريخى آخر «الناصر صلاح الدين»، الذى يسجل لواحدة من أهم المعارك العربية فى التاريخ، ويدعو فى رسائل مباشرة لوحدة العرب، وكلا الفيلمين ضمن قائمة أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية.. لتسطرا معاً تاريخاً مجيداً فى السينما المصرية وفى القوى الناعمة بشكل عام!
كلتاهما اقتربت من السلطة.. بدرجة أو بأخرى.. ماجدة تزوجت إيهاب نافع، الطيار الخاص للزعيم جمال عبدالناصر، ونادية تزوجت شقيق حاتم صادق، زوج هدى عبدالناصر!
ماجدة أنتجت «العمر لحظة» لقصة كتبها يوسف السباعى عن حرب الاستنزاف، لكنها انفعلت بها وأنتجتها بعد حرب أكتوبر، فجاء الفيلم متأخراً عن موعده وعرض بينما أفلام الانتصار تعرض فى كل مكان.. لكنها ورغم خسائرها لم تندم ولم توظف الأزمة لتحقيق أى مكاسب خاصة، ولم تتاجر بما فعلت.. ونادية لم تطلب تكريماً ولم تسع إليه فجاءها التكريم لحد منزلها!
ماجدة يحاول أحدهم من الباحثين عن الإثارة فى بلاط صاحبة الجلالة فيسألها عن غضب جمال عبدالناصر منها فتنفى تماماً وتؤكد أن العكس هو الصحيح.. حيث انفعلت فى الستينات أمام عبدالناصر لتطالب بزيادة أجور المدرسين فتؤكد أن عبدالناصر أيد كلامها وقرر زيادة أجورهم بالفعل. ونادية يسألونها عن أحد أفلامها وهل يعكس موقفاً سلبياً من عبدالناصر فتنفى تماماً وتؤكد أنه نقد لبعض السلبيات ولا يعنى موقفاً من عهد الزعيم!
غيرهما سار مع الموجة.. والخلاصة.. الثقافة حصن الفنان.. تحدد أعماله ومواقفه.. فتراه ونراه مع الوطن وأهله.. تاريخ مجيد ليس فيه ما يخجل.. وليس فيه إلا حب البلاد والعباد والخير والحق والجمال!
وداعاً جيل العظماء الرائعين!