أحب أشعار بيرم التونسى، وتبهرنى موسيقى محمد عبدالوهاب، ويمنحنى صوت «أسمهان» بهجة لا محدودة، لكن هذا الثلاثى للأسف لم يجتمع إلا فى أغنية واحدة وهى «محلاها عيشة الفلاح».
الأغنية كتبها «بيرم» ولحنها «عبدالوهاب» وشدت بها أسمهان «بالصوت فقط» فى فيلم «يوم سعيد»، وكانت هذه الأغنية هى الأولى والأخيرة التى لحنها عبدالوهاب من نظم بيرم التونسى ولهذا قصة.
تقول كلمات الأغنية «محلاها عيشة الفلاح.. مطمن قلبه مرتاح» وترسم صورة جميلة لحياة الفلاحين المصريين، ونجحت الأغنية نجاحاً باهراً بصوت أسمهان ثم بصوت محمد عبدالوهاب نفسه، لكن الست أم كلثوم لم تعجبها كلمات الأغنية لأنها تعطى صورة غير حقيقية عن أوضاع الفلاحين، وهى واحدة منهم بالطبع، قد يكون فى تعليق أم كلثوم على الأغنية بعض من غيرة مهنية بسبب النجاح الذى تحقق، غير أن نقدها للكلمات منطقى بالطبع.
المهم علم «بيرم» برأى أم كلثوم فى الأغنية فكايدها، وقال: المهم أنها نجحت وغناها محمد عبدالوهاب مطرب الملوك والأمراء.. إلى هنا والسجال بين بيرم وأم كلثوم، لكن عبدالوهاب دخل على الخط وقال: «أنا كمان مش عارف إزاى لحنت وغنيت الكلام ده اللى كتبه بيرم».
آه وهنا وقعت الواقعة، وبيرم صاحب أجمل الأشعار والأزجال الذى تغنى بأشعاره كبار المطربين ولحنها ألمع الموسيقيين، لا يقبل هذا التعليق حتى لو كان من عبدالوهاب.. فماذا يفعل؟
يرد على طريقته الساخرة ويشرع فى كتابة أغنية يلحنها الشيخ زكريا أحمد، تقول كلماتها:
يا أهل المغنى
وجعتوا دماغنا
دقيقة سكوت لله
ده إحنا شبعنا كلام ماله معنى
عين ويا ليل ويا آه
ردى عليه يا طيور بينادى وارميله الجناحين
وانت كمان يا وابور الوادى قول له رايح على فين
قول له إياك يرتاح يا وابور ويريحنا معاه
كلمات الأغنية واضحة لا لبس فيها فهى تسخر من عبدالوهاب وأغانيه «أغنية يا وابور قول لى رايح على فين، وأغنية اجرى اجرى» وذاعت الأغنية وانتشرت وقرر بعدها عبدالوهاب ألا يغنى أو يلحن أغنية من نظم بيرم التونسى، أما الست أم كلثوم فاستمرت مع الثنائى بيرم وزكريا ليقدموا معاً أروع الأغانى القصيرة والطويلة «رغم خلاف الست والشيخ زكريا فى فترة من الفترات».
كان زمن غير الزمن ومواهب وقامات إبداعية تطاول السماء، ذهب الخلاف وتفاصيله وبقيت أغنية «يا أهل المغنى وجعتوا دماغنا دقيقة سكوت لله» نسترجعها كلما دقت فوق رؤوسنا موسيقى لا يربطها بالفن أى رابط، وأغانٍ لا علاقة لها بالغناء من أى وجه، وهذه النوعية من الأغانى وهذا النوع من الموسيقى «إن جاز أن نسميها أغانى ونصفها بالموسيقى» لا يخلو منها زمان أو مكان.
لكن فى السنوات الأخيرة طغت هذه النوعية من الأغانى على الساحة وأصبحت فى صدارة المشهد لتشكل ظاهرة مؤذية للمشاعر الجماعية مفسدة للذوق العام، والسخيف فى الأمر أنها تُعرف بأغانى المهرجانات، وقبل أن ينبرى أحد دفاعاً عن هذا النوع من «الزعيق والنهيق أحياناً» بدعوى أن الزمن اختلف وأن «الجمهور عايز كده»، وأن رفض الأغانى الشعبية على هذا النحو يمثل تعالياً على ما يسمعه «أهل مصر» أقول: إن الفرق كبير بين هذا الإسفاف وبين الغناء الشعبى، وفى نهاية المطاف الموسيقى موسيقى والغناء غناء أما هذا النوع من «اللاشىء» فمختلف تماماً.
فسيد درويش أبدع أغانى شعبية ومن بعده محمود الشريف وأحمد صدقى وعبدالعزيز محمود وعبدالعظيم عبدالحق والعبقرى بليغ حمدى، كل هؤلاء وغيرهم ممن يزينون بموسيقاهم ذاكرتنا الموسيقية قدموا موسيقى شعبية لكنها كانت موسيقى حقيقية ورائعة، وكذلك أبدع مطربونا الشعبيون من عبدالمطلب إلى كارم محمود وعبدالغنى السيد ومحمد رشدى حتى عدوية وحسن الأسمر وغيرهم أيضاً أغانى شعبية مبهجة ورائعة، كل هؤلاء لا يمكن أن يذكروا ومن خلفهم يذكر «ملوك المهرجانات».
بجد الأمر يحتاج لوقفة حقيقية لا تكون بالمنع ولكن بتبنى المواهب الحقيقية وإفساح المجال أمام المبدعين الجادين، وهذه مسئولية الدولة والمؤسسات النقابية وشركات الإنتاج؛ فالعملة الرديئة لا يمكن أن تطرد العملة الجيدة إلا بتواطؤ المعنيين وتساهل أصحاب القرار.