لم أتوقف عند أمر متعلق بمهرجان «بنت الجيران» بقدر ما توقفتُ عند حديث العراقيين إلكترونياً عنه!
تفحصتُ باهتمام تعليقات نسب أصحابها أنفسهم للعراق على بعض منصات التواصل، أكدتْ فى مجملها أن المهرجان مسموع بكثافة فى شوارع بغداد، على المقاهى وفى الأزقة وفى الحافلات، شاكرين إخوانهم المصريين على تصدير تلك الإيقاعات المبهجة إلى هواء المدينة القديمة المنهكة.
بينما أمرر عينى على التعليقات المحتفية، وجدتنى أستعيد حكاية الموسيقى العراقى «أمين مقداد» ابن البصرة، الذى قيل فى حاله إنه «العراقى الذى حارب داعش بالقيثارة».
أذكر أننى طالعتُ حكاية مقداد فى 2017 واختزنتها بداخلى مع مجموعة من الصور المتخيلة لما قد يكون مر به الرجلُ عقب اجتياح داعش الموصل فى صيف 2014، حينها، وبعد أن جرّمت داعش الموسيقى ضمن ما جرّمتْ وحرّمتْ منذ اللحظة الأولى لدخول المدينة، وقف «أمين» -كمخبول لا يعى تماماً ما يدور حوله- على سطح بيته يعزف على قيثارته لحناً حزيناً. لم يكن «أمين» يعرف حينها أن الأمر سيستغرق أكثر من عامين قبل أن يستطيع أن يعاود العزف من جديد فى الأماكن العامة، فى الأسابيع التالية للاجتياح، أغلق مقاتلو «داعش» مكتبات المدينة، وحرّموا التبغ وأصدروا مرسوماً تُجرّم بموجبه الموسيقى، وخوفاً من الملاحقة، دسَّ «أمين» أدواته الموسيقية التى تنوعت ما بين كمنجات، وجيتارات، وآلة التشيللو، فى حقائب وأخفاها فى قبو منزله فارّاً إلى بغداد.
ظن «أمين» وقتها أنه سيكون عليه أن ينتظر لفترة زمنية غير طويلة قبل أن تتحرر المدينة من قبضة «داعش»، غير أن الأسابيع غدت شهوراً، ليقرر «أمين» بحلول الشتاء أنه غير قادر على الانتظار أطول من هذا، وأنه سيجازف بالعودة إلى آلاته الموسيقية الحبيسة فيحررها، وبالفعل عاد إلى الموصل، لكنه لم يستطِع الفرار بالآلات المحرمة فظل حبيس بيت أسرته الخاوى، سجيناً مراقباً خائفاً من اجتياح بيت الأسرة والتحقيق معه بتهمة عزف الموسيقى سراً!
قضى «مقداد» أياماً طوالاً فى تأليف الموسيقى وتخيل نفسه يعزف كونشرتاته الحزينة وسط أوركسترا عالمية، شاعراً مع كل دفقة موسيقى تخرج من إحدى آلاته أنه يحارب «داعش» على طريقته، فى نفس ذاك الشتاء، ألقى رجال «داعش» القبض على فتى عمره 15 عاماً بعد أن أمسكوا به وهو يستمع إلى الموسيقى الغربية فى محل أبيه (!) ثم أعادوه جسداً بلا رأس لأبيه تحذيراً لأمين «مقداد» وأمثاله... لكن «مقداد» الذى لم يرتدع بتلك الرسالة التحذيرية، واصل تحديه للدواعش بعزف الموسيقى سرّاً فى بيته، ونشر مقاطع مصورة لمعزوفاته على «فيس بوك»، حتى سقط فى أيدى الدواعش الذين استجوبوه واستتابوه لساعات وحاضروه فى تحريم الموسيقى وشيطانيتها، بعد أن صادروا كل أدواته الموسيقية., عاش بعدها «أمين» لشهور مطارداً فى المدينة من مخبأ إلى مخبأ، بلا أدوات موسيقية، مُعملاً خياله لصنع أداة موسيقية بدائية من الخشب وأسلاك وأوتار أعواد قديمة أشبه بالهارْب، حتى تحررت المدينة من قبضة رجال «داعش».
قد تبدو المسافة شاسعة بين جهاد «مقداد» الشاعرى بالموسيقى الكلاسيكية، وبين الاحتفاء بإيقاعات مهرجان «بنت الجيران»، لكنى لا أجدنى الآن شغوفة بحديث المنع والذائقة العامة وتدنيها، ولا بنقاش الفن العربى بين الأصالة والمعاصرة والشعبوية والنخبوية وما إليه. فقط أجدنى أرى فى اللقطتين انحياز المدن العراقية لإيقاعات الحياة حتى فى قلب المأساة، ومهما بلغ ألمُ الوطن وعلت أصوات الاحتجاج والرصاص والفقر والفساد.
إنها الروح السارية فى أجساد المدن المريضة، والتى تبقيها -برغم المرض- حاضرة على الخرائط.