لا شىء فى هذا العالم يمكنه تغيير طبيعة الغالبية العظمى من رجال الأعمال، خصوصاً الأثرياء جداً منهم، وعلى الأخص بعض كبار الأثرياء الذين يحتلون مراكز متقدمة خلال السنوات الأخيرة فى قائمة «فوربس» لأغنى أغنياء العالم، مثل «بلدياتنا سابقاً» الأخ سميح ساويرس، الذى اختار منذ سنوات أن يحمل جواز سفر دولة مونتينجرو فى البلقان، بعد أن نقل إليها جزءاً من استثماراته، حتى يتمكن -كما قال يوماً- من دخول أى بلد أوروبى دون الحاجة إلى الحصول على «فيزا».
ولعل أهم صفة تميز رجال الأعمال المنتصرين دائماً فى معركة الحياة، هى أنهم يكسبون فى أوقات الشدة أضعاف ما يكسبونه فى أوقات الاستقرار، وأن ما يربحونه من مصائب البشرية وويلات الحروب والكوارث الطبيعية والأوبئة أعظم كثيراً مما يربحونه فى الأوقات الطبيعية، الأسوأ من ذلك أن غالبية أعمال الإغاثة والتبرعات التى تقدّمها الشركات العملاقة لشعوب المناطق الموبوءة بالحروب والكوارث الطبيعية والمجاعات والأوبئة، ثبت يقيناً أن الهدف الخفى منها كان «إطالة أمد هذه الكوارث، ليصبح الأمر أشبه ما يكون بتجارة كبرى، تُدرُّ المليارات على الشركات والمقاولين»، كما يثبت ذلك كتاب «رأسمالية الكوارث»، الذى صدرت ترجمته مؤخراً عن سلسلة «عالم المعرفة»، وهو من تأليف صحفى استقصائى أسترالى تنقّل بين أفغانستان وباكستان وهايتى وبابوا غينيا الجديدة والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واليونان وأستراليا، ليكشف عن السلوك المفترس لكبار أغنياء العالم، ومسئولى الحكومات، ومديرى المنظمات الدولية المتواطئين معهم، لاقتناص أقصى ربح من كل مصائب البشرية، مهما كان الثمن.
هذا «السلوك المفترس» كان هو الأكثر سطوعاً فى تصريحات بعض كبار رجال الأعمال المصريين، بمجرد وصول فيروس كورونا المستجد إلى مصر، فقد سارعوا فوراً إلى إلقاء ثقل مواجهة هذا الوباء القاتل على الدولة، بل إن بعضهم لم يكتف بذلك، وإنما سارعوا، مثل الأخ سميح ساويرس، إلى «مطالبة الحكومة بتدبير حزمة مساعدات للعاملين فى شركاتهم وفنادقهم التى تضررت من وقف الرحلات السياحية بين دول العالم»، وقد ذهب سميح ساويرس إلى إرهاب الدولة بكلام يبدو منطقياً من ظاهره، بقوله لموقع «اليوم السابع»، يوم ٢٠ مارس الجارى: «هناك ملايين من المصريين يعملون فى الفنادق وقطاعات الخدمات التى تضررت من تفشى فيروس كورونا، وهناك حزم دعم مالى قدمتها حكومات أمريكا وإنجلترا وسويسرا للعاملين المتضررين، نظراً لأن هؤلاء يشكلون عاملاً أساسياً فى دورة الاقتصاد، وعدم وجودهم فى السوق كقدرة شرائية يؤدى إلى كساد الاقتصاد ويؤثر على الدولة».
نعم، لا أحد يجادل فى وجاهة هذا الكلام الذى قاله «سميح»، وقد سارعت الدولة فعلاً بتطبيقه قبل أن تستمع لنصائحه، وخصصت ١٠٠ مليار جنيه مساعدات لكل قطاعات الدولة المتضررة من تفشى الوباء، وعلى رأسها منظومة الصحة التى تقف بأطبائها وطواقم ممرضيها وموظفيها على خطوط مواجهة هذا الفيروس الشرس، الذى انهارت أمامه المنظومات الطبية فى أغنى دول العالم، حتى وصل الأمر بولاية نيويورك الأمريكية إلى ابتكار آلية لاقتسام جهاز التنفس الواحد بين مريضين فى ذات الوقت، لمواجهة النقص الحاد فى الأجهزة وأسطوانات الأكسجين، بدلاً من إنقاذ مريض، وترك مريض آخر للموت.
وأمام هذه الجائحة المخيفة التى ضربت أكثر الدول غنى وتقدماً قبل أفقرها وأكثرها تخلفاً، وفتكت بالآلاف ممن يملكون ملايين الدولارات قبل أن تفتك بمن لا يملكون غير الستر، سارع كثيرون من متوسطى الحال إلى التبرع بالأموال والمستلزمات الطبية وسوائل التعقيم والتطهير، وقامت الجيوش بتطويع معداتها وآلياتها الثقيلة ومضاعفة إنتاج شركاتها لتطهير الشوارع والنوادى والمتنزهات ومبانى الوزارات والشركات، لحماية المترددين عليها. حدث كل هذا، بينما كان ملايين المصريين يحتملون فى صبر عذاب البحث عن الكحول والمطهرات الأخرى فى الصيدليات التى خلت أرففها فجأة من هذه السلع، لتظهر فى مخازن سرية وتُباع للمواطنين بأربعة أضعاف سعرها المعلن.
وفى الوقت الذى كشف فيه عمال وموظفو الفنادق والمنتجعات السياحية عن أوامر تسريحهم ووقف مرتباتهم دون رحمة، سارع سميح ساويرس بإلقاء مسئولية صرف مرتباتهم على الدولة، ليس رأفة بهم، وإنما للحفاظ عليهم كـ«قوة شرائية» تحمى اقتصاد «سميح» وأمثاله من الركود لا قدر الله!!. الأمر ذاته، وربما أسوأ، حدث فى قطاع آخر، حيث تكللت جهود بارونات تصدير الحاصلات الزراعية -وهم من أغنى أغنياء مصر- بأخذ موافقة البنك المركزى على استفادة محطات التعبئة والثلاجات والمزارع السمكية ومزارع الدواجن من مبادرة الـ١٠٠ مليار جنيه بفائدة متناقصة مقدارها ٨٪ لمن يتراوح حجم أعماله بين ٥٠ مليوناً ومليار جنيه، وبفائدة متناقصة ٥٪ لمن يقل حجم أعماله عن ٥٠ مليون جنيه، هذا بالإضافة إلى استفادتهم جميعاً من مبادرة تأجيل سداد أقساط القروض وإلغاء غرامات تأخير السداد وإجراءات تجميد النشاط وإلغاء التراخيص التى صدرت قبل تفشى الوباء، وليس عندى أدنى شك فى أن حشود العمالة غير المنتظمة التى تقف الآن على منافذ التسجيل فى وزارة القوى العاملة للحصول على ٥٠٠ جنيه، منحة خصصتها الدولة لكل منهم، هم من الضحايا الذين سرّحتهم كبرى شركات السياحة وتصدير الحاصلات الزراعية التى يملكها هؤلاء المتكالبون حالياً على اعتصار وافتراس حزم المساعدات وترك الفتات لجموع المواطنين الغلابة فى هذا الوطن.
الأهم من كل ذلك، أن جوع كبار المستثمرين لافتراس عصارة الحياة فى شرايين الوطن لم يقف عند هذا الحد، وإنما تخطاه إلى سلوك شديد الإجرام يستحق وقفة حاسمة، ففى الوقت الذى دخلت فيه الحرب على وباء كورونا فى أمريكا وإسبانيا وإيطاليا وإنجلترا وفرنسا مرحلة رهيبة، تمثلت فى النقص الحاد فى المستلزمات الطبية وأجهزة الحماية الشخصية مثل القفازات والكمامات والمطهرات وملابس الوقاية الخاصة لطواقم الأطباء والتمريض وأجهزة ومعدات التنفس الصناعى، وفى الوقت الذى دخلت فيه شركات مصر العسكرية والمدنية معركة وجود لتوفير هذه المستلزمات بكثافة فى مصر، إذا بالحكومة المصرية تتلقى طلباً من مسئول كبير فى إحدى دول البلقان الأوروبية يطلب فيه السماح لمستثمر «مصرى» بتصدير كميات ضخمة من المستلزمات الطبية المصنوعة فى مصر، والخاصة بالتصدى لفيروس كورونا القاتل، للدولة البلقانية، وبالطبع تم رفض الطلب على الفور، بسبب احتياج مصر الشديد إلى أضعاف إنتاجها الحالى من هذه المستلزمات، فى حالة تزايد معدلات الإصابة بهذا الوباء.
والحال كذلك، وأمام هذا التوحش الرهيب لكبار الأغنياء الذين يحاولون تحقيق أقصى ربح من هذه الكارثة العالمية، لا نملك إلا أن نحمد الله على أن أغنى أغنياء العالم ليسوا فى مأمن من إصابات فيروس كورونا المستجد، الذى يفتك بالبشر دون تفرقة، ولم يرحم حتى الآن غنياً أو فقيراً، وها هى أعتى الدول وأغناها وأكثرها نهباً لخيرات وموارد الأرض تنهار أمامه وتطلب النجدة كما لو كانت من دول العالم الثالث!!.