في عمق الحارة المصرية وتاريخها، وجد الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ، ضالته في إلهام ووحي يستلهم منه مصادر الإبداع لكتاباته، التي رسم خلالها عن طريق الكلمات، صورةً للحارة، لا يستطيع الرسامين إنتاج مثيل لها بريشتهم، حيث خرج منها بالعديد من المؤلفات، التي أصبحت مراجع للحديث عن الحارة المصرية، ولعل من أهمها كتابه "حكايات حارتنا".
"الوطن" تقرأ لك من "حكايات حارتنا"، خلال ليالي الحظر بسبب فيروس كورونا، إحدى الحواديت التي أبدع خلالها أديب "نوبل"، في وصف الحارة المصرية، وتاريخها وصفاتها.
في الحكاية الثانية من حكايات حارتنا، يعود أديب نوبل سنوات عديدة للوراء، ويجسد الحارة في "أم زكي"، تلك المرأة الخمسينية المشعة بالحياة والبهجة، المشرقة دوما التي ارتبط بها صغيرا ثم ما لبثت أن ذبلت وانقطعت علاقته بها.
حكاية "أم زكي"، اختار لها محفوظ راوي قصتها أن يكون طفلا لازال يتعلم "الفاتحة وألف باء" في كتاب الحارة، إلا أنه ارتبط بصداقة مع أم زكي كانت سعيدةً بها، ويصفها قائلا: "في الخمسين مهذارة، ولكنها لم تنزلق لسوء، وعمل ابنها زكي نجار في حارتنا، فسار بين الناس مرفوع الرأس، وهي تدمن التدخين وسماع أسطوانات منيرة المهدية، أرملة لها في طل بيت صديقة حميمة، لم تشتبك في مشاجرة واحدة في حارتنا المليئة بالمشاحنات".
الأيام لا تبقى على حالها، فأم زكي المرحة التي لم تمانع أن يدلك جسدها العاري ذلك الطفل الراوي، وتعد بالصلاة والصيام قبل يوم القيامة، أصابتها وعكة صحية، فذبل جسدها وترهل كأنه طيات من الجلد الخاوية واختفى مرحها، وخابت معها الوصفات والأدوية.
الحارة التي ارتبط بها صغيرا في أم زكي
عادات الحارة القديمة وخرافاتها التي تكتظ بها كتابات أديب نوبل تظهر مع حالة "أم زكي"، فسيدات الحارة أصبحن مؤمنات أن ما تمر به السيدة ما هو إلا فعل "الأسياد"، وألا شفاء لها إلا بالزار، الذي امتلأ منزلها في يومه الموعود بالنساء والبخور.
يرسم محفوظ مشهد الزار في بيت "أم زكي" بكلماته قائلًا على لسان الراوي الصغير: "وأطل برأسي من المنور فأرى صديقتي مشهد جديد، تجلس على عرش في عباءة مزركشة بالتلي والترتر، متوجة على الرأس بتاج من العاج تتدلى منه عناقيد من الخرز، منقوعة القدمين في وعاء من ماء الورد تستقر في قاعه حبات من البن الأخضر، وتدق الدفوف وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في الجو أنفاس العفاريت ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة للرقص فتموج القاعة بالحركات وتتوهج بالتأوهات وتذوب الأجساد في الأرواح، وهاهي أم زكي تتلوى بعنف كأنما ردت إلى جنون الشباب".
المشهد الجنوني الذي انتهى بصفير حاد من فم "أم زكي" وإغمائها، كما مرت الأيام إلا أن صحة "أم زكي" لم تتحسن، فلا تمزح ولا تضحك وتتسائل في جزع: "ماذا جرى لي.. ماذا حدث لي يا رب.. أين أنت يا أم زكي".
ابنها المعلم زكي قرر أن ينقلها إلى "القصر العيني"، ليودعها صديقها الصغير وعيناه مغرورقتان بالدموع، وكما بدأت الحكاية وهو يراقبها وهي تمشط شعرها عاريةً، انتهت وهو يراقبها، بينما يحملها "الكارو" إلى المستشفى ويتمتم: "يا رب رجع لنا تيزة أم زكي"، ولكن ليست كل الدعوات تستجاب فأم زكي لم تعد "وكأن الكارو حملتها إلى بلاد الواق واق".
تعليقات الفيسبوك